15 سبتمبر 2025

تسجيل

ارتباك القوى العظمى وصعود القوى الإقليمية

06 أبريل 2015

وقعت إيران والدول الغربية اتفاقا إطاريا لإنهاء معضلة الملف النووي في مدينة لوزان وتغير تصنيف الجمهورية الإسلامية من دولة إرهابية إلى دولة حليفة ورسخت نظرية صعود القوى الإقليمية وتقلص الدور المباشر للقوى العظمى وحين تفتح اليوم أية قناة فضائية ستدرك أن (سرغاي لافروف) وزير خارجية روسيا التحق بمدينة لوزان السويسرية ليتأكد من أن الاتفاق الغربي الإيراني حول الملف النووي لطهران لا يتعارض مع مصالح موسكو وستدرك أيضا أن رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان يستعد لزيارة طهران بدعوة من الرئيس حسن روحاني رغم الاختلاف في مواقف الدولتين، ولا تنسوا أن الرئيس التركي أعلن الأربعاء الماضي أنه سيزور طهران مهما كانت الاختلافات في تقييم الوضع اليمني وأن الرئيس روحاني هو نفسه الذي ترأس منذ عشر سنوات بداية المفاوضات مع الغرب حول الملف النووي حين كان أمينا عاما لمجلس الأمن القومي الإيراني الذي كان يرأسه خاتمي. كما ستدرك يا قارئي الكريم أن المستنقع اليمني مثل المستنقع السوري حرك التنافس القديم بين واشنطن وموسكو إلا أن العملاق الصيني ظل ظاهريا بعيدا عن هذه الصراعات لكنه يفضل تحريك حلفائه والاعتماد على تغلغله الاقتصادي والتجاري في القارات الخمس دون تصدر المشهد الدبلوماسي.. فبكين هي الغائب الحاضر بفضل مخزونها الأول في العالم من الدولار الأمريكي!. نحن نعيش مرحلة جديدة من تشكل العلاقات الدولية في عصر الأزمات الكبرى، مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة أفول القوى العملاقة وصعود القوى الإقليمية كلاعبين مؤثرين في تحديد مصير العالم. وطبعا الفرق كبير بين القوى العملاقة وهي ذات التأثير العالمي والقوى الإقليمية وهي ذات التأثير الأقليمي.يتفق أغلب الخبراء في العلاقات الدولية على القول بأن معضلات الشرق الأوسط الراهنة والحروب المعلنة والخفية التي تزعزع شعوبه هي مؤشرات خطيرة تهيئُنا لمصير مجهول يشمل العالم بأسره انطلاقا من بؤرتين للأزمات الكبرى: المشرق الإسلامي وأوكرانيا. وهذه الظاهرة سماها الوزير الأسبق للخارجية الأمريكية (هنري كيسنجر) على قناة (سكاب تي في) ظاهرة ارتباك القوى العظمى التقليدية (أمريكا روسيا الصين..وأوروبا) في مواقفها التي كانت تعتبر ثابتة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية إلى سنة 1989 تاريخ انهيار جدار برلين ومعه امبراطورية الاتحاد السوفيتي. ونفس الظاهرة سماها كاتب افتتاحية (نيويورك تايمز) (توماس فريدمان) بالارتباك الأمريكي أمام خلخلة تحالفاته القديمة فوجدت واشنطن نفسها مضطرة لعقد تحالفات جديدة لأن الدبلوماسية الأمريكية اليوم تحاول كبح جماح إيران ومنعها من امتلاك السلاح النووي وهي تعلم أن ذلك الهدف لابد أن يكون له ثمن! فما هو الثمن المتفق عليه لإنجاز تلك الصفقة؟ وتسربت من لوزان قبيل التوقيع تصريحات وزير خارجية فرنسا (لوران فابيوس) الذي قال اننا في الربع ساعة الأخير وسنتوصل إلى اتفاق مع إيران يرضي كل الأطراف. أما روسيا فلا تريد اليوم أن يفوتها القطار في هذا الملف فهي تحرص على تقليص حضورها التقليدي (العسكري والسياسي) لتحقق أهدافها من خلال التحرك الإيراني والتحرك السوري في المنطقة بل وحتى محاولة استغلال التردد الأمريكي تجاه مصر لجر القاهرة كقطب أساسي في الشرق الأوسط إلى دائرة "المودة" الروسية كما ثبت ذلك من خلال زيارة بوتين للقاهرة منذ شهرين وهو السبب المباشر والأهم لإعلان واشنطن أن إعانة أمريكا لمصر لن تنقطع وأن واشنطن ستزود القاهرة بطائرات (أف 16 المتطورة). كل هذا يحدث اليوم بعد أن مرت أزمة النفط بسلبياتها المختلفة على العملاقين وبخاصة روسيا التي كانت نسبة النمو السنوي فيها 7 % فتأثر اقتصادها بسبب هبوط أسعار النفط والغاز وبسبب ما فرضه الغرب من عقوبات موجعة على موسكو بتجميد التعامل التجاري والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة وبين روسيا من جهة ثانية في ردة فعل قاسية ضد ما يجري في أوكرانيا وجزيرة القرم. فروسيا اليوم وبعد استعادة عافيتها العسكرية على أيدي بوتين تطمح إلى استعادة دورها الامبراطوري القيصري القديم وتقطع مع سياسات (ميخائيل غورباتشوف) ويرى بوتين نفس رؤية القيصر الإسكندر بأن روسيا لا يمكن أن تعيش بدون جورجيا وأوكرانيا! فما بالك اليوم وهاتان الجمهوريتان أصبحتا عضوتين في حلف الناتو وهو أمر جلل يوقظ ستالين من قبره.أما دول القارة الأوروبية فهي أيضا تعاني من أزمات اقتصادية أصابت بعض أعضاء اتحادها مثل اليونان الذي اختار الناخبون فيه طريق المواجهة مع سلطات وقوانين الاتحاد الأوروبي بانتخاب حكومة متمردة أعلنت العصيان وعدم تسديد الديون المتخلدة في ذمة اليونان والتهديد بمغادرة الاتحاد وعملته الموحدة (اليورو) وكالبرتغال وأسبانيا وحتى إيطاليا وهذه الدول تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة كما أن فرنسا ليست في مأمن حصين من هذه الهزات! هذه المعضلات الاقتصادية والاجتماعية أدت إلى مصائب سياسية أيضا بصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى دوائر الحكم والإمساك مثلا بثلث مقاعد المجالس المحلية والجهوية في فرنسا في انتخابات مارس الماضي. فالاتحاد الأوروبي بعد ضمه لسبعة وعشرين دولة أصبح فعليا تابعا للقرار الأمريكي ولم تقنع باريس ولا برلين العالم بأن لهما دورا حاسما ومحوريا في تحديد مسار العلاقات الدولية. بقيت الولايات المتحدة وحدها قوة عظمى لكنها يسرت صعود القوى الإقليمية التي تخدم مصالحها دون التورط هي ذاتها بجيوشها في الحروب حيث تقوم دول حليفة لها بالمهمة في ردع النفوذ الروسي الذي هو بدوره يختبئ وراء قوى إقليمية تؤدي المهمة ببراعة لكن اللعبة الكبرى تبقى بين العملاقين في النهاية. أما التميز الأمريكي فيقوم على تعدد مصادر القوة الأمريكية فهي ليست فقط عملاقا عسكريا لأنها أدركت منذ عهد رئاسة (دوايت إيزنهاور) سنة 1955 أن تحديات العالم المعاصر ليست عسكرية بل إن النفوذ الأبقى مع الزمن هو الذي يجمع بين العناصر الأربعة: المال والثقافة والجامعات والثورة الرقمية وقد فسر المفكر الفرنسي (ألن مينك) هذا الخيار في كتابه (روح الأمم) الصادر سنة 2013 قائلا: ليس من الصدفة أن تكون رموز القوة الأمريكية اليوم هي (مانهاتن) نفوذ المال، و(هوليوود) نفوذ الثقافة، و(هارفارد) نفوذ الجامعات القوية صانعة النخب في العالم، وأخيرا (أبل) رائدة الابتكارات التكنولوجية والرقمية في العالم بلا منازع.