31 أكتوبر 2025
تسجيلمنذ ظهور الدول العربية الحديثة بعد استقلالها عن الاستعمار الأوروبي في النصف الثاني القرن العشرين، شهدت المنطقة العربية العديد من الأزمات التي استدعت تدخل الدول الكبرى من أجل حماية مصالحها في المنطقة. وفي كل مرة كانت بعض الدول العربية تشارك بشكل مباشر أو غير مباشر وفقا لحساسية موقفها من هذا التدخل ومدى صلابة موقف الدول التي تشن هجومها على الدولة العربية صاحبة الأزمة. استمر هذا الوضع حتى اندلاع الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل ضد لبنان في صيف العام 2006 حيث أصبحت مواقف الدول العربية تتسم بالوضوح الذي كانت تفتقده في الأزمات السابقة بعد انقسام هذه الدول إلى قسمين رئيسيين أحدهما ضمن التحالف الأمريكي الإسرائيلي. والآخر ضمن تحالف الممانعة الذي تقوده إيران وسوريا وتندرج ضمنه قوى وحركات المقاومة العربية، خاصة في لبنان وفلسطين. كان واضحا أن هذا الانقسام في مواقف الدول العربية في هذه اللحظة، هو انقسام استراتيجي وليس تكتيكيا، بالنظر إلى النتائج المترتبة عليه والتي كانت ستؤثر بشكل جذري على طبيعة وصورة المنطقة العربية لسنوات طويلة. وهو ما حدث بالفعل بعد أن وضعت الحرب أوزارها بهزيمة مدوية ذات طبيعة إستراتيجية لإسرائيل أمام حزب الله اللبناني. وتكرر الأمر خلال الحرب ضد قطاع غزة في العام 2008، حيث كانت لها هي الأخرى تبعاتها الإستراتيجية التي زادت في وضوح الرؤية الجديدة للمنطقة التي تغيرت فيها قواعد اللعبة التي استمرت لما يزيد على الستين عاما منذ نشأة الدولة الإسرائيلية في العام 1948. خلال تلك المرحلة، كان هناك موقف للدولة القطرية بدأ يتشكل في نهاية القرن العشرين يقوم على أساس أمرين هو حماية مصالح قطر ثم تقديم المساعدة للدول العربية قدر الاستطاعة وذلك وفق مبدأ الشفافية والمصارحة التي كانت تفتقدهما سياسات الكثير من الدول العربية. وقد ظهر هذا الموقف بوضوح خلال حرب لبنان عام 2006، حينما اتخذت قطر موقفا مختلفا عن مواقف الكثير من الدول العربية وخرجت عن السياق العام الذي حكم موقف الدول الخليجية الذي انصاع لموقف المملكة العربية السعودية. وتكرر الأمر خلال حرب غزة عام 2008، حيث كان موقف الدوحة أشد وضوحا من ذي قبل حينما دعت إلى مؤتمر قمة عربي لمساعدة الشعب الفلسطيني ضد هذه الهجمة الإسرائيلية الشرسة، لكن العديد من الدول العربية الأخرى وقفت ضد السياسة القطرية وعملت على إفشال هذا المؤتمر عبر عدم السماح باكتمال النصاب القانوني له. فتحول لمؤتمر لدول وقوى المقاومة العربية حيث حضرته حركة حماس في سابقة هي الأولى من نوعها. خلال هذه السنوات وما تلتها، اكتسبت الحركة القطرية على المستوى العربي احتراما شعبيا متزايدا رغم محاولة بعض الدول المنضوية في إطار التحالف الأمريكي - الإسرائيلي التأثير على هذه الحركة وتصويرها على أنها تهدف لسيطرة قطر على قضايا العمل العربي المشترك، وكأن هناك من الأساس شيئا اسمه عمل عربي مشترك !! ثم جاء ربيع الديمقراطية العربي مع اندلاع الثورة التونسية في شهر ديسمبر من العام الماضي وما تلاها من ثورات مصرية ويمنية وليبية وغيرها، لتزيد الحركة القطرية رسوخا وتقاربا مع الشعوب العربية. حيث أعلنت منذ اللحظة الأولى عن وقوفها إلى جانب هذه الشعوب مقدمة ما تستطيع من مساندة مادية ومعنوية وإعلامية عبر قناة الجزيرة القطرية التي أصبحت تسمى قناة الشعوب العربية بعدما انحازت لهذه الشعوب وأصبحت صوتها الذي تسمعه الدنيا كلها. ومع اندلاع الأزمة الليبية جراء تحول ثورة الشعب الليبي البيضاء إلى حرب تحرير وطنية بعد أن فرض النظام الليبي عليها حمل السلاح للدفاع عن نفسها ضد بطشه الذي وصل إلى حد استخدام كافة أنواع الأسلحة التي يملكها ضد شعبه بدءا بسلاح الطيران وليس انتهاءً بسلاح المدفعية وراجمات الصواريخ. هنا كان لقطر دورها المتميز الذي سبقت به الكثير من الدول ليس فقط العربية ولكن أيضا دول العالم الخارجي حينما أعلنت منذ اللحظة الأولى وقوفها إلى جانب حق الشعب الليبي في تقرير مصيره. ودعت الزعيم الليبي معمر القذافي إلى التنحي وترك الشعب يختار من يحكمه. وحينما رفض النظام الليبي المناشدات القطرية والدولية الأخرى، دعت قطر إلى تحرك عربي ودولي عاجل من أجل حماية الشعب الليبي، واستطاعت أن تؤمن موافقة خليجية كاملة سبقت عقد اجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب لتوجيه طلب إلى مجلس الأمن للقيام بواجباته في هذا الصدد. وبعد صدور قرار مجلس الأمن لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أعلنت عن مشاركتها في العملية العسكرية التي أقرها المجلس، حيث توجهت أربع مقاتلات قطرية لتشارك في فرض حظر الطيران في الأجواء الليبية. كما أعلنت عن اعترافها رسميا بالمجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل عقب قيام الثورة في بنغازي كممثل وحيد للشعب الليبي. فضلا عن قيامها بمهمة بيع النفط الليبي لصالح الثوار من أجل توفير الاحتياجات المعيشية للمدن الخاضعة لهم. هذا الموقف القطري الذي جاء مناصرا للشعب الليبي، كان في نفس الوقت يحمي هذا الشعب ومصالحه من إمكانية انحراف مسار التدخل الدولي بشكل يهدد ثورته ووحدة الدولة الليبية وسيادتها. حيث كان واضحا إصرار قطر على مشاركتها في كافة الاجتماعات التي عقدها التحالف الدولي الذي يقود هذا التدخل من أجل منع أي انحراف ضد مصالح ليبيا، دولة وشعبا. لقد كان الدور القطري في الأزمة الليبية بمثابة "رمانة الميزان" التي تمنع أحد كفتي الميزان من أن تطيح بالأخرى، حتى إنه يمكن القول بلا تردد أن قطر تمثل صوت الشعب الليبي داخل التحالف الدولي.