11 سبتمبر 2025
تسجيلفيما كنت أتجول في أروقة جامعة قطر، في إحدى ضحياوات شهر أكتوبر من العام المنصرم 2022 وقعت عيني على مبنى كُتب عليه «قاعة ابن خلدون»، أظنها «قاعة»، نعم، هكذا قرأت فيما أتذكر، تنفست الصعداء حين قرأت هذه التسمية الضاربة جذورها في أصالة التاريخ، تلك الحقب السالفة حيث تنتمي روحي، سحبتني قدمي خطوة نحو المبنى، وددت لو أني أدخله، لولا أني كنت في ضيق من وقتي، ولي مآرب أخرى في الدوحة، أتسابق مع الوقت لأنجزها، فأكملت طريقي نحو العربة. بعد ذلك الصباح بيومين، كنت مع أمي وأخي في عربته، عائدين إلى الديار، وكنا نتجاذب أطراف الحديث؛ لنقص به طريق السفر، وحيث إن حديثي مع أخي دائما يدور في فلك العروبة؛ كان قد قال شيئا ذكرني بطريقة ما في قاعة ابن خلدون، وبعد أن صمتنا لبرهة، تسارعت مخرجةً هاتفي لأبحث عن هذه القاعة، فوجدتها أكبر مما ظننت، حيث حسبتها قاعة مدرجة للمحاضرات الكبرى فحسب، وجامعة قطر زينتها بهذا الاسم، فإذا هي «مركز ابن خلدون» الذي يُعنى بالدراسات الإنسانية، وهنا زاد إعجابي بذكاء التسمية، فضلا عن انتمائي التاريخي لإرث العرب! ربما سألت نفسك: لِمَ السمية ذكية؟ وربما لم تسأل، سأخبرك في الحالتين: حين بحثت عن المركز، فهمت من رؤيته المدرجة في موقع الجامعة؛ أنه يهتم بالدراسات البينية في العلوم الإنسانية، فاهتمامه لا يصب في تخصص واحد، بل يضم أكثر من تخصص في هذه العلوم، وحيث إن «ابن خلدون» عالم جمع مشارب العلم في هذه التخصصات؛ كان من الذكاء أن يُسمى المركز باسمه، لا باسم عالم آخر عُرِف بعنايته في علم دقيق. فإن مقدمة ابن خلدون مرجع لكثير من هذه التخصصات، يجد المختص باللغويات تأصيلا بها، وكذلك المؤرخ، وأيضا علم الاجتماع يشغل حيزا في مقدمته، وأكثر من ذلك، وحيث إن «مركز ابن خلدون» في جامعة قطر معني بأكثر من تخصص في العلوم الإنسانية؛ فإن «ابن خلدون» أفضل عالم يُسمى المركز باسمه. «ابن عربي» يتمتع باسم يعكس الأصالة، لكنه يميل إلى النزعة الفلسفية أكثر من كونه متنوعا في العلوم - وإن كانت الفلسفة هي نواة كل العلوم-، «الفارابي» يمتلك اسما موسيقيا جميلا، بالإضافة إلى انسجام حروف اسمه مع كلمة «العروبة»، لكن علومه كانت تنحدر من منحى فلسفي على وجه الخصوص أكثر من التنوع بين العلوم الإنسانية، «المتنبي» ينفرد برمزية العرب، لكنه شاعر - وإن كنت أتحفظ على كونه شاعرا، ولعلي أناقش هذا لاحقا-، «سيبويه» اسمه يأخذ الإنسان إلى النحو قصرا؛ وهكذا ستبحث ولن تجد أفضل من اسم «ابن خلدون» يمثل رؤية المركز في الجامعة. في الأشهر اللاحقة، كنت أطلع على عناوين المحاضرات في المركز، فوجدتها بعيدة عن الطرح التقليدي المستهلك، ذلك الذي أكل عليه الدهر وشرب، وهذا ما زاد إعجابي بالمركز، حيث إنه لم يتبهرج إعلاميا فقط، بل إنه فاعل في تأدية رسالته؛ تمنيت، وما زلت أتمنى أن يتسنى لي حضور هذه المحاضرات، لا أعرف بعد إن كان المركز أو كانت جامعة قطر تسجل هذه المحاضرات أم لا؛ لكن إن لم تكن تفعل فأتمنى أنها تفعل ذلك؛ لسببين: ليكسب البعيد فرصة لحضورها؛ وليُحفظ العلم الذي أُلقى بها.