11 سبتمبر 2025

تسجيل

موضوية الأفكار في العولمة الفكرية

02 مارس 2023

قبل أزيد من عامين رصدت ملاحظة؛ وهي أن الأفكار تفد على الناس فيهتدون إليها على مجموعات! جموع كثيرة من البشر تتبنى فكرة واحدة، بكيفية متشكلة في قالب على الهيئة ذاتها، وكأن هذه الفكرة سلعة تُباع في السوق، كالفستان -مثلا- الذي يتوفر منه أعداد في نفس اللون والتصميم، فتشتريه أكثر من امرأة، هكذا أيضا لاحظت وفود الأفكار وكأنها «موضة» يشتريها مجموعات من الناس بنفس التصميم، ثم بعد فترة تصبح موضة قديمة، وتُباع لهم أفكار بموضات جديدة، فيكبون على وجههم لشرائها. وحين لاحظت هذا الأمر نويت أن أكتب مقالا بعنوان «موضوية الأفكار» لكنه لم يتجاوز حدود الملاحظة عندي، أقصد: إني رصدت الملاحظة لكني لم أعرف بعد أسبابها، لكي أعرف من الأسباب كيف يمكن لنا مواجهتها؛ فتريثت إلى حين أن تنضج الفكرة في عقلي، وقبل فترة قصيرة وأنا أتأمل بالملاحظة وضعت أصبعي على السبب؛ والذي هو «العولمة»، فوسعت العنوان إلى «موضوية الأفكار في العولمة الفكرية»! سقطت الأندلس، جاءت على إثر سقوطها «محاكم التفتيش» الدموية، قريبا من هذه الأثناء ذهب «كريستوف كولومبوس» إلى أمريكا، فكانت رحلته النواة لدولة أمريكا، انبثق عصر النهضة الأوربية، على جثث المسلمين المعذبين في محاكم التفتيش، حُرق علمهم في كتبهم نعم، لكن أُخِذ منه ما من شأنه أن يعزى إليه الفضل في علوم عصر النهضة الأوربية، اخترع الغربي التلفاز والراديو، فبث منه الإعلام الذي يصل إلى كل مناطق العالم؛ هو سيد الإعلام إذن هو سيد العولمة، إذن هي ليست عولمة، هي شيء اسمه «النموذج الغربي». قديما، لم يكن هناك ما يصل بين الأمم المترامية الأطراف على رحاب هذه الأرض الشاسعة، كانت بينهم تجارة عبر السفن بين المدن الساحلية، وحتى تجارة برية على المواشي بين المدن غير البحرية، كانت هناك مراسلات بين الحكام، نعم، كل ذلك كان موجودا، لكنه لم يخول إلى سرعة التمازج بين الشعوب؛ لأسباب لا يجهلها القارئ: فالحركة فيها بطيئة، والفئة التي تتعامل مع الآخر محدودة، إلى غير ذلك. أما اليوم مع وجود جهاز التلفاز الذي يبث ثقافة الآخر كما يبث أفكاره فالأمر مختلف، التلفاز يوجد في كل بيت يشاهده الصغير والكبير؛ أشير إلى التلفاز لأنه بداية بث «النموذج الغربي» المسمى بالعولمة، ثم عقبته مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يستقبل بها الإنسان العشرات وربما المئات من أفكار الآخر في اليوم الواحد. بداية كانت العولمة في الماديات، من الأكل واللبس وغيرها، ولاحظت أن العولمة التي اكتسحت العالم في هذه الأمور؛ هي عالم الغربي من الأوروبي والأمريكي، فمثلا العولمة، جعلت العديد من الأمم الأخرى تتناول «البان كيك» على الفطور، والقهوة الأمريكية، والبيتزا، فصارت هذه المأكولات عالمية، لكن الطعام الصيني والهندي لازال يمثل تلك الأمم، ولم يصل إلى العالمية، ومثلها القهوة الخليجية. انطلاقا من هنا أصل الآن إلى «موضوية الأفكار في العولمة الفكرية» فمادام الغربي هو المتحكم في العولمة، في نواحيها السابقة التي ذكرت، فهو أيضا المتحكم في الناحية الأشد خطورة؛ وهي «الأفكار». إن الأمم الأخرى غير الأمة الغربية، تستقبل الأفكار التي تفد عليها منها، دون أن تحاكمها ولا تشذبها لتقولبها بما ينسجم مع ثقافتها، بل تبتلعها كما هي، والأمر الأشد خطورة؛ أنها تنسلخ من أصالتها، وقيمها التي تتميز بها عن بقية الأمم؛ لأن الأفكار الوافدة تتناقض مع مبادئها، ولأنها أيضا توحي إليها أن مبادئها رجعية لا تناسب روح العصر! وهذا ما ينبغي التصدي له في عدة منابر، فالأساتذة في الجامعات ينبغي عليهم أن يرفعوا سقف الوعي عند طلبتهم، وكذلك الآباء. ولعل المدخل الأول الذي دخل به الغربي في بث أفكاره من منبر العولمة، أو ما سميته «النموذج الغربي»؛ هو مدخل اللغة، فإن اللغة الإنجليزية لم تكن هي اللغة العالمية دون غيرها من اللغات؛ إلا لأن «النموذج الغربي» هو نموذج العولمة، واللغة هي البوابة لبث أفكار الأمة من خلالها. نستطيع في أمثلة كثيرة أن نلاحظ الأفكار التي تجيء على هيئة موضة وتستهلكها شريحة كبيرة من البشر، فمثلا في بدايات الأعوام بين 2011 و2013 درجت موضة «النسوية» في عالمنا العربي، واليوم من يتحدث عن شؤون المرأة يُرد عليه إن أفكاره قديمة، فالعالم اليوم ينشغل بموضة فكرية جديدة؛ وهي الشذوذ الجنسي، والتي يسميها الغربي «المثلية»، وهكذا دواليك. ليست المشكلة في كل ما سبق الاطلاع على أفكار الآخر، ولا وفودها علينا، إن المشكلة الكبرى هي أن هذه الأفكار موضوية مسلعة، وما يدل على موضويتها هو تبني الناس لها على مجموعات، فلا يوجد استقلال فكري. منذ أن بدأت البشرية والناس تفكر، فالفكر جزء من تكوين العقل الإنساني، والإنسان الذي لا يفكر يموت، لكن الحدث المختلف في عصرنا هذا؛ هو أن الأفكار تجيء معلبة بكيفية واحدة، وتتبناها مجموعات من الناس بالكيفية ذاتها دون اختلاف، ثم بعد أن تؤدي غرضها، تفد عليهم أفكار أخرى فيتبنونها على مجموعات أيضا، وهكذا فإننا نقف أمام عقول ناس تُفرغ بها الأفكار من أعلى؛ وهذا ما لا يتوافق مع دينامية اشتغال العقل البشري، الذي تُعرض عليه الفكرة، فيستقبلها، فيشذبها، فإما أن يرفضها، أو يقبلها، أو يصححها بما يواءم وعيه التراكمي المستقل، الأمر في موضوية الأفكار هو التعامل مع هذه الأفكار وكأنها سلع جاهزة تُستعمل ثم بعد فترة لا تكون صالحة للاستخدام. إن استهلاك الأفكار كموضة يجعلنا نقف أمام مشهد ثقافي غير مسبوق، وانعكاسات نتائجه تظهر في أعمال فنية وأخرى نقدية، فالأمر لا يقف على حد عقول الناس المستهلكة لهذه الموضات الفكرية، بل يتجاوزها إلى توجيه تيار ثقافي يمثل عصرا كاملا سيخلده التاريخ في الأعمال الفنية على جميع أصعدتها السينمائية والأدبية، كما النقدية والأكاديمية، التي تعكس الاستهلاك الموضوي للأفكار. كما أننا نقف أمام ظاهرة ثقافية تتطلب منا رصد سماتها ودراسة نتائجها التي تربو بين حيوات الشعوب. إن موضوية الأفكار تجعلنا نقف أمام تساؤل: إلى أين يتجه فكر الإنسان العربي؟