17 سبتمبر 2025

تسجيل

لماذا نحتمي بفكر الآخر ونتهم تراثنا الفكري بالفشل ؟ (2)

06 مارس 2016

لعل اعتراف الرئيس الأسبق لليمن الجنوبي علي ناصر محمد بالأخطاء الفادحة التي وقعت في هذا البلد، نتيجة التطبيقات السلبية، والتجاوزات، وخنق الحريات، تغني عن أي تفسير آخر، وتتجاوز عن الحديث في تأثيرات القبلية في الصراعات الداخلية، ففي حديث صحفي قال علي ناصر:" لقد كانت الدولة تمارس صلاحياتها بشدة مما أدى إلى إيذاء الكثير من المواطنين. ففي بدايات التجربة عومل القطاع الخاص كعدو، وعطل بالكامل، ما انعكس سلباً على الحياة الاقتصادية والتنمية. وكان المهمش الديمقراطي في حياة الناس شحيحاً، بحيث لم يسمح بالعمل السياسي إلا من خلال الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان هو نفسه يعاني من ضيق المهمش الديمقراطي للتحرك في أوساطه، الأمر الذي أدى إلى تصفيات دموية للعديد من قياداته، وأوصله في الأخير إلى الانفجار الذي حصل في يناير 1986". القضية أعمق من اختزالها في مقولات، وتوقعات غير محفورة في جسد الفكرة نفسها، وفوق ذلك من قال إن الماركسية نجحت وحققت صموداً في العالم المعاصر؟ إذا كان واقعنا فقط هو الذي يرزح تحت غول القبلية، ولا يترك فرصة للتطبيق الهادئ المتقن، فالماركسية نفسها حملت معاول هدمها، فماركس، كما يقول د/مصطفى محمود: " لم يقدم علماً.. ولا كانت اشتراكيته علمية.. ولا أفكاره موضوعية لهذا أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس وأخطأت حساباته. فلم تخرج الشيوعية من إنجلترا المتقدمة صناعياً، وإنما خرجت من الصين الزراعية وروسيا المتخلفة.. ولم ينقسم المعسكر الرأسمالي وينهار ويتناقض، وإنما انقسم المعسكر الاشتراكي وتناقض وتصارع..(ثم سقط في سنة 1991م)ولم تتفاقم الهوة بين العمال الكادحين وأصحاب رؤوس الأموال المرفهين بل ضاقت".ثم إن مقولة "الحتمية" لحركة التاريخ مقولة غير علمية، لأنها مجرد احتمال أثبت الواقع انحرافها وسقوطها" لكن النظرة الموضوعية العلمية والأمينة، لا تقول بأكثر من الترجيح والاحتمال في أمثال هذه المسائل.. فالقوانين الإحصائية كلها قوانين احتمالية وكلها ترجيحات لا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية أو الإطلاق، ومن هنا تكون كلمة "الحتمية التاريخية" أو "حتمية الصراع الطبقي" كلمات غير علمية. ثم إن الإنسانيات لا تجوز فيها الحتمية.. لأن الناس ليسوا كرات بلياردو تتحرك بحتمية فيزيائية.. لكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات معقدة، يستحيل فيها التنبؤ بناء على قوانين مادية وأصدق مثال على كذب دعوى الحتمية الطبقية ما رأيناه في حالات متكررة. فقد رأينا الإقطاعي ابن الإقطاعي تولستوي يتصرف بعقلية بروليتارية، فيوزع أرضه على الفلاحين.. أين ذهبت الحتمية هنا.. ولماذا لم يتصرف بمقتضى طبقته وبالمثل الفوضوي كروبتكين. بل وكارل ماكس نفسه ابن الطبقة البرجوازية الذي ثار على البرجوازية، نحن هنا نفاجأ بالعقل وقد رفض أن يأخذ شكل ظروفه وبيئته.. بل ثار عليها ونهض لتغييرها" إذن ليس دقيقا، ما قاله الدكتور محمد جابر الأنصاري، حول الأزمات العربية، وردها إلى القاع السوسيولوجي، وتأثير العقلية القبيلة فيما جرى ويجري في واقعنا العربي، وتجاهل قضايا لاصقة ومتأصلة في جسد هذا الواقع وأزماته. ومن ضمن الآراء التي طرحها د/ الأنصاري، أن الدولة العربية الإسلامية "لم تجد لها قاعدة دولة تتأسس عليها في المجتمع العربي القديم، فلم هناك من بنى دولة وهياكلها وتقاليدها وتجاربها، ما يساعد على انطلاق دولة كبيرة وواسعة النطاق كالدولة الإسلامية، بل كان التكوين السياسي المجتمعي ببناه القبلية المتعددة. يمثل النقيض لبنية الدولة وثباتها ونموها المتدرج غير المنقطع". وهنا يتجاهل د/ الأنصاري رأيه السابق الذي طرحه في كتابه (تكوين العرب السياسي) عن الآثار المكتشفة المتعلقة بوجود حضارات ومدن عميقة الجذور في الجزيرة العربية مدنيا وحضاريا. ففي الكتاب يقول د/ محمد جابر الأنصاري" الواقع أن نشوء هذه المستوطنات الحضرية، دليل على مدى الجهد التحضري". مضيفا في فقرة أخرى" فمع الاطلاع على المصادر المدونة بالعربية الجنوبية والمصادر الأجنبية والتنقيبات الأثرية، بدأت نظرية الأصل الصحراوي بالتهاوي. وظهرت إلى الوجود جغرافية سكانية وطبيعية مختلفة عما هو شائع بتراث عربي مجهول، ذي طابع مدني لم يكن معروفا. وظهرت دلائل على وجود تجمعات كتابية وتجارية وصناعية في عهود مغرقة في القدم، على السواحل وعلى امتداد شبكة طرق تجارية أشهرها تجارة العطور". وهذا الذي قاله د/ الأنصاري في مسألة الأصل الصحراوي، في مباحثه السابقة ليس جديدا، بل نجده في أغلب كتبه وأبحاثه ومقالاته، ولم يتزحزح قيد أنملة عن هذا الرأي، ففي ندوة [الغزو العراقي للكويت: الآثار المستخلصة والخروج من الأزمة]، قدم الأنصاري ورقة بعنوان (بنية الثقافة السياسية والسلوك العربي) قال ما نصه: "إن العرب على مدار تاريخهم لم يجربوا الحياة في ظل دولة منظمة ثابتة ودائمة بالمعنى التقليدي المتعارف عليه للدولة. صحيح أنهم عرفوا السلطة والحكومة، لكن السلطة شيء وبناء دولة مؤسسية شاملة شيءآخر". والحقيقة أن القراءة التاريخية لنظرية الدولة في التاريخ العربي الإسلامي من خلال الواقع الراهن، أو تمثل الدولة الأوروبية المعاصرة، والقياس عليها سيكون مبتورا وغير علمي بمقاييس حاضرنا الذي بلا شك يختلف كثيرا عما استلهمته التجارب التاريخية، ومنها نموذج الدولة في أوروبا.. فالدولة الحديثة ـ كما يقول الباحث وليد نويهض ـ التي تطور نموذجها في أوروبا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، والسيطرة على السوق الدولية ليست موجودة في الفكر الأوروبي نفسه. والدولة الحديثة التي نهضت بعد الثورة الصناعية وتوحيد السوق القومية بفضل تراكم الفائض من السوق الدولية، ثم ارتسام معالم الدولة والمعاصرة، للفصل بين مصالح السوق (الدخل القومي) وحاجات السيطرة الدولية (الخارج) في آسيا وإفريقيا، فإن فكرتها أو نظريتها السياسية ثم إنتاجها لاحقا في ضوء التطورات التي شهدتها العلاقات الدولية وتحول أوروبا إلى مركز وآسيا وإفريقيا إلى أطراف". وللحديث بقية..