16 سبتمبر 2025

تسجيل

السياب وصلاح عبدالصبور ونقائص الحياة

06 مارس 2014

رحل بدر شاكر السياب عن عالمنا يوم 24 ديسمبر سنة 1964 وها قد مرت السنوات متعاقبة، إلى أن أطلت هذه السنة - سنة 2014 – لتصبح سنة مكرسة لهذا الشاعر العظيم الذي أثرى الشعر العربي بعطاء زاخر ومتنوع، وقد أهله هذا العطاء لأن يكون رائدا لحركة الشعر الحر على امتداد الساحة الأدبية العربية، ولو أننا تأملنا تصور شعرائنا الكبار لمفهوم الشعر بصورة عامة، لوجدنا أنهم يرون أن الشعر الناضج العميق هو هذا الذي يبرز النقائص والسلبيات التي تعوق تقدم الحياة في انطلاقتها إلى الأمام، ولعل هذا يتضح من خلال تصور السياب الذي غاب عنا منذ خمسين سنة، ومن خلال تصور رفيقه في حركة الشعر الحر صلاح عبدالصبور. يقول بدر شاكر السياب: لو أردت أن أتمثل الشعر الحديث لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل.فالشاعر إذن - في تصور السياب – كاشف للحجب والأستار، نافذ ببصيرته إلى الأعماق الخبيئة التي لا تكشف عن نفسها إلا لمن يتحمل المشاق الجسام، وهذا أمر لا يقدر عليه ولا يصبر عليه – بطبيعة الحال – إلا الفنان الجاد الأصيل.. ووفقاً لهذا فإن طبيعة مهمة الشاعر تتركز في تصوره للأشياء قبل أن تتبدى في صورها العادية المألوفة، ومن خلال هذا يحاول الشاعر أن يرى العالم كما هو بالفعل، وإنما كما ينبغي أن يكون عليه، مؤسسا – بهذه الطريقة – مدينته المثالية الفاضلة التي ليس لها نظير في عالم الواقع المألوف الذي يكتنفه الظلام، وتقف في وجه تقدمه المعوقات.. مادية كانت أو معنوية. وبهذا تصبح رسالة الشاعر في الحياة رسالة إيجابية بناءة، تشير إلى النقائص بقصد تجاوزها سواء أجاءت هذه الإشارة بطريق مباشر يشوبه الانفعال الحاد، أو بطريق غير مباشر يغلب عليه التوازن بين الفكر والشعور.واتساقا مع ما قاله السياب، يقول صلاح عبدالصبور في كتابه حياتي في الشعر: لست شاعراً حزيناً، ولكنني شاعر متألم.. وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأنني أحمل بين جوانحي – كما قال شللي – شهوة لإصلاح العالم. وقد اعترف لنا شللي أنه استقى هذا التعبير النبيل الجميل من أحد الفلاسفة الاسكتلنديين، ولعل في ذلك إشارة إلى المعنى الذي سبق أن ألمعت إليه من الصلة بين الشعر والفلسفة. إن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والشاعر، لأن كلاً منهما يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه.والحق أن شعر صلاح عبدالصبور – في مجمله - تبرز فيه شهوة إصلاح العالم التي يحملها صاحبه بين جوانحه، من خلال بحثه الدائب المستمر عن القيم النبيلة، والتي تتمثل عنده أساساً في ثلاث قيم: الصدق، والحرية، والعدالة. ذلك لأنه يعتقد أن هذه الفضائل هي التي تستطيع تشكيل العالم وتنقيته، وأن غيابها معناه ببساطة: انهيار العالم. هذا هو تصور شاعرين كبيرين لطبيعة مهمة الشاعر ومفهوم الشعر. والحق أن بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور متقاربان في تصور كل منهما لطبيعة مهمة الشاعر، بل إنهما متفقان، لكن هذا التصور لا يرضي النقاد الدونكشوتيين الذين يطالبون الفنان بأن يدفن رأسه في الرمل، وأن يغمض عينيه عن النقائص التي تعوق تقدم الإنسان، وأن يبتسم ابتسامة بلهاء وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط. والحقيقة أن التفاؤل الساذج أمر لا يعرفه الفنان الجاد الذي يدرك عبء الكلمة التي يقولها، ويشعر بفداحة المسؤولية الملقاة عليه.