10 نوفمبر 2025
تسجيلكأنها لم تغب عن عالمنا منذ يوم 3 فبراير سنة 1975، أي منذ تسع وثلاثين سنة، فها هو صوتها الرائع معنا، كأن لم يتغير شيئا.. وها هي أم كلثوم ساطعة الحضور، نسهر معها في ليالينا، ويحفزنا صوتها لبلوغ ما لم يتحقق من أمانينا.. ها هي تغني للفرح يا ليلة العيد آنستينا.. ويستعيد معها العشاق الحزانى قصة الأمس.. حتى إذا عاد الحب للأحباب من بعد غياب تفاجئنا النشوة الغامرة فنتساءل معها ومعهم: جددت حبك ليه؟ الفن الأصيل لا يذهب هباء ولا يتبدد، وإنما يظل على الدوام يتأكد ويتجدد، ولهذا تظل خالدة الصوت أم كلثوم زعيمة لكل عصر، ويظل عشاقها يتزايدون بلا حصر، وإذا كانت قد ولدت في إحدى قرى مصر، فإنها – بالمثابرة والجهد – أصبحت تسكن في قلب كل إنسان عربي صادق الانتماء، والمؤكد بالطبع أن أم كلثوم- فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، قد ولدت في طماي الزهايرة، إحدى قرى الدقهلية، أما سنة ميلادها فهي محل خلاف لم يحسم حتى الآن، يقال إنها ولدت سنة 1898، ويقال بل في سنة 1904، وهناك من يقول إذا صح أن ولادتها صادفت ليلة القدر السابع والعشرين من رمضان وآخر السنة الميلادية معا، فإن السنة التي يتفق فيها هذان اليومان هي سنة 1902، وأيا كان الأمر، فإن أم كلثوم ظلت تؤدي رسالتها في الحياة، إلى أن حان موعد السفر الطويل يوم 3 فبراير سنة 1975، أي منذ تسع وثلاثين سنة، وقد مرت كل تلك السنوات دون أن يشعر بمرورها محبوها وعاشقو صوتها، لأنها – كما قلت – ساطعة الحضور، وليست هناك مناسبات معينة تستدعي منهم أن يستحضروها، فالغائبون هم وحدهم الذين نستحضرهم، أما هي.. فلا.الفنان الأصيل هو الذي يكرس نفسه لخدمة هذه الأصالة.. هذا ما قالته خالدة الصوت، ومما قالته أيضا: إذا أحس الإنسان أنه قمة، وأنه نال وحقق كل ما يريد، فهذا يعني الموت.. يعني النهاية.. وقد طبقت أم كلثوم هذا الذي قالته على نفسها بالدرجة الأولى، والتزمت به في كل موقف من مواقف الحياة والفن.. كان يمكن - مثلا- أن تكتفي ببروفة أو بروفتين لأية أغنية من أغانيها الجديدة، لكنها لم تكن تقنع إلا بعشرات البروفات، رغم كل ما ينجم عن هذا الجهد من إرهاق لها ولمن يعزفون معها، ومع إطلالة كل أغنية جديدة، كانت تبدو كما لو كانت طالبة صغيرة تؤدي امتحانا، وتظل تترقب نتيجته بخوف، لهذا نستطيع القول إن أم كلثوم لم تخلص لشيء في الحياة قدر إخلاصها لفنها، فقد حرمت نفسها من أن تعيش طفولتها وشبابها، كما تعيش أية فتاة شابة، ورغم أنها كانت – في قرارة نفسها – تحب أن تعيش حياتها بصورة طبيعية، فإنها رأت أن هذه الحياة الطبيعية ستشكل عائقا بينها وبين إخلاصها للفن.هل كان الشاعر الرقيق أحمد رامي يحبها من طرف واحد منذ لقائهما الأول سنة 1924؟ لا.. بالطبع.. فالحب كان متبادلا بينهما كما يؤكد كثيرون من العارفين.. إذن ما الذي دفعها لأن ترفض عرض رامي بأن يتزوجها؟.. إنه الإخلاص للفن الذي لم تخلص لسواه، إخلاصها لموهبة رامي من جهة، ولفنها من جهة ثانية، فلقد أدركت – بالعقل المجرد الذي يكبح العاطفة عندما يكون الإنسان قويا وحازما مع نفسه – أن أشواق رامي تجاهها قد تبرد بحكم الألفة الهادئة في ظلال بيت الزوجية، وأنها قد تتسرع في إجراء البروفات، وقد تقدم أعمالا لم يتم التخطيط لها بعناية، ولم تنفذ بإتقان، وقد تتحول إلى أم، وعليها أن ترعى – بحكم الأمومة – أطفالها رعاية فائقة، شأن معظم الأمهات.. لو حدث كل هذا فأين سيكون الإخلاص للفن، بل ربما أين سيكون الفن ذاته؟