18 أكتوبر 2025
تسجيلالتصريح الأخير الذي أدلى به وزير الخارجية التركي جاويش أوغلوفي مؤتمره الصحفي في تونس لا يترك أي مجال للتأويلات في شأن إحالة ملف قتل الشهيد جمال خاشقجي إلى محكمة الجنايات الدولية وهوما توقعته شخصيا منذ الأسبوع الأول على هذه الصحيفة لسبب واضح تفسره لنا بنود ميثاق هذه المحكمة منذ إنشائها وطبيعة القضايا الجنائية التي تعهدت بها حين أدانت رؤساء دول ووزراء وأمراء حرب سابقين وسجنوا بتهمة ارتكاب جرائم تتجاوز صلاحيات القوانين الوطنية ليتولى القضاء الجنائي الدولي البت فيها باتفاق كل الدول الموقعة على تأسيس هذه المحكمة ومن بينهم السعودية وتركيا. والذي يهمنا اليوم مع تطور الأبحاث هو مدى مسؤولية الدولة السعودية ذاتها من منظور القانون الدولي لا فقط المسؤولية الجنائية لمن أصدر أمر القتل ومن نفذ الجريمة ومن تستر عليها، فالدولة ترتكب الجريمة لأنها وفرت أدواتها ومنفذيها، فلم يعد خافيا أن المتهمين أشخاص رسميون ينتمون الى أجهزة حكومية رسمية كلفوا بمهمة قذرة وخارجة عن القانون ومدتهم إدارتهم بأدوات الجريمة من طائرات لنقلهم الى اسطنبول، ومن سكاكين ومناشير لتقطيع جثة الضحية وسموم لحقن القتيل والأخطر توفير مقر القنصلية وهوالمتمتع بحصانة المعاهدة الدبلوماسية لفيانا 1961 ليكون مسرحا للجريمة بعلم الدولة لأن أحد أعوان الدولة وهوالقنصل العام العتيبي كان أحد مرتكبي الجريمة وهواليوم طليق في بيته بالمملكة. يقول أحد أبرز فقهاء القانون أستاذ القانون الدولي العام في جامعة الجزائر د.محمد سعادي في كتابه (مسؤولية الدولة في ضوء التشريع والقضاء الدوليين/ نشر دار الجامعة الجديدة ص 28): «قد تكون مسؤولية الدولة تعاقدية أوتقصيرية الأولى ترتبط بالإخلال الرسمي بأحد التزاماتها التعاقدية في القانون الدولي والثانية يعرفها أستاذ القانون الدولي غازي حسن صابريني كونها تنشأ من تقصير الدولة عمدا في كشف الحقيقة وفي الحالتين تعتبر الدولة السعودية لا أعوانها وحدهم هي المسؤولة جنائيا أما محكمة الجنايات بلاهاي. وهنا فإن الرجوع الى بعض بنود محكمة الجنايات بلاهاي تنير لنا هذه الخيارات الضرورية. جاء في ميثاق إنشاء المحكمة ما يلي:» تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بـجرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا والجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق وجرائم الحرب تعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أوداخلي ويمكن للمحكمة أن تنظر في قضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها. والمحكمة –التي يقع مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكنها يمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان آخر- هي محكمة مكملة للقضاء الوطني للدول الأعضاء فيها، وتمثل الملجأ الأخير عندما تكون هذه المحاكم غير قادرة على التحقيق مع المتهمين بالجرائم المذكورة، أولا تريد ذلك. يمكن للدول المصادقة على المحكمة أو مجلس الأمن الدولي أن تحيل على المدعي العام قضايا تتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها، كما يمكن للمدعي العام أن يبادر بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك. « وهنا نذكر بما ورد في الميثاق من امكانية مبادرة مدعيها العام بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك، ثم الإقرار بأن المحكمة هي الملجأ الأخير عندما تكون المحاكم الوطنية العادية غير قادرة على التحقيق بعد أن تأكد الجميع من سوء النية وانعدام الحقيقة لدى القضاء السعودي وتعامله الغريب مع الملف والمتهمين، وهذا احتمال وارد إذا ما اقتصرت بحوث القضية على القضاء السعودي وحده. نسجل أن الرئيس التركي طالب بوضوح أن يتولى قضاء تركيا البحث والحكم لأن الجريمة أرتكبت على أرض تركية، أما القضاء السعودي فهو يعتقد أنه المؤهل لهذا العمل دون سواه لأن المتهمين والضحية ينتمون إلى جنسية سعودية! ولهذه الأسباب لم يغفل ميثاق محكمة لاهاي عن هذه الاختلافات التي يمكن أن تتطور إلى خلافات وهنا احتمال ضياع حق الضحية جمال خاشقجي وارد، وكذلك إفلات الجناة من العقاب العادل. الأخطر والأرجح هو أن من أمر بارتكاب جريمة القرن ورط الدولة التي أصبحت مسؤولة جنائيا وهو ما أكده د. محمد سعادي حين قال في كتابه الذي ذكرناه بأن فقه القانون الدولي يتجه منذ مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي انعقد في ستوكهولم في شهر جوان يونيه 1972 الى تحميل الدولة كل المسؤولية الجنائية وتوقيع العقوبات عليها بإلزامها بجبر الضرر وتقديم الأشخاص المورطين للعدالة الدولية.. ويجدر بالذكر أن تحميل الدولة للمسؤولية الجنائية ليس جديدا فهو منصوص عليه في كتاب (الصفة الإجرامية للدول) لرجل القانون الفرنسي (بيللا) الصادر عام 1925 وبقتضاه حوكمت الدولة النازية الألمانية في محكمة نورمبيرغ الشهيرة عام 1946 على جرائم دولة لا جرائم أفراد.