30 أكتوبر 2025
تسجيلإضاءات مجتمعية لقد حثَّنا دينُنا الحنيف على التحلِّي بكل خلق رفيع تتجلَّى فيه الفطرة السليمة والإنسانية الرحيمة التي تشعر بكل مَن حولها وتتألم لآلامهم، وتحاول التخفيف عن كل صاحب هَمٍّ أو ضيق أو انكسار أو شدة. ومن هذه الأخلاق العظيمة جَبْر الخواطر؛ فتلك الصفة التي قَلَّما يُحسِنها وينفرد بها إلا الأصفياء الأنقياء أصحاب الأرواح الطيبة الحساسة التي تشعر بمن حولها في كل وقت وحين. ومما يزيد هذه الصفةَ الجميلةَ (جبر الخواطر) جمالًا أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى وهو اسم الله ((الجبار)) والذي بمعناه الرائع يَجبُر المنكسرين، ويحنو على المتألمين، فيُطمئِنُ القلبَ ويريحُ النفسَ؛ فهو سبحانه «الذي يَجْبُر الفقير بالغِنَى والسَّعة، والمريضَ بالصحَّة والعافية، ويجبر الفشلَ والتعسُّر بالتوفيق والنجاح، والخوفَ والقلق بالأمان والاطمئنان، فالله جبَّارٌ مُتَّصف بكَثرة جَبْره حوائج الخلائق». [تفسير أسماء الله للزجاج]. فالتحلِّي بجَبْر الخواطر يدلُّ على سمو النفس ورِقة القلب وسلامة الصدر. يجْبُر المسلم فيه نفوسًا كُسِرت وقلوبًا انفطرت وأجسامًا أرهقتها المتاعب والهموم والأوجاع، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها في حياتنا اليومية؟!! يقول الإمام سفيان الثوري: «ما رأيت عبادةً يتقرَّب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم». وتُظهِر لنا السنة النبوية العديدَ من المواقف التي جَبَر فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خاطرَ أصحابه، فما كان عثمان بن عفان ينساها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تخلَّف عن بيعة الرضوان فوضع النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى يدَيْه على الأخرى قائلًا: «وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ». وما كان أبو ذر ينساها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تأخَّر عن الجيش، فلما حطَّ القومُ رحالهم ورأوا شبحًا قادمًا من بعيد وأحسن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الظنَّ بأبي ذر أنه لن يتخلف أبدًا عن الجهاد، وأخذ يقول: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» فتمنَّى لو كان هو، وظل يقول: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» فكان أبا ذر حقًّا. وما كانت عائشة تنساها للمرأة التي دخلت عليها في حديث الإفك، وظلت تبكي معها وتشاطرها حُزنها دون أن تتكلم بكلمة، بل ظلت تبكي لبكاء عائشة، ثم ذهبت. وما كان كعب بن مالك ينساها لطلحة يوم أن ذهب إلى المسجد متهللًا بعد أن نزلت توبته؛ فلم يَقُم إليه أحد إلا طلحة، قام واستقبله فرِحًا لفرحه فاحتضنه وآواه بعد غيابٍ واقتسم معه سعادتَه، يقول كعب: «والله لا أنساها لطلحة». كل هذه المواقف وغيرها الكثير التي تحثُّنا على جبر خواطر الوالد والوالدة والإخوة والأخوات والأهل والأبناء والبنات والأرحام والأصدقاء والرفقاء والزملاء وقتَ الشدائد والصعوبات وكذلك في وقت الرخاء. فينبغي على كل منَّا في مكانه أن يحرص على جبر خواطر مَن حوله، حتى المعلم في مدرسته، والدكتور في جامعته، ما أجمل أن تجبر خاطر طالبك المتعثِّر بكلمةٍ طيبةٍ أو بإشادة أمام زملائه على صنيع خير يقدمه ولو كان يسيرًا! فجبر خاطر المتعثر يحثُّه على الاجتهاد حتى يصل للنجاح والتفوق. تجبر بخاطر طلابك في مشاكلهم الدراسية وحتى الشخصية، هذه اللحظات لا تُنسَى على مدار العمر؛ لما فيها من الحنان والعطف والاحتواء لهذا النشء الصغير في مرحلة عمرية حساسة تحتاج إلى مزيد من جبر الخواطر في كل المواقف التي يمرون بها. إلى أصحاب المواقع الإدارية وذات المسؤولية وإلى كل راعٍ أن يراعي حق رعيته، ما أجمل أن تتحلى بجبر الخواطر أيها المسؤول والمدير والوزير والقائد؛ تجبر بخاطر كل مَن تحت إدارتك في العمل بالوقوف معهم في مشكلاتهم والمطالبة بحقوقهم، وكذلك بمواساتهم في همومهم وأحزانهم، تفقُّدُك للغائب وسؤالك عن المتأخر لِمَ تأخر لعل حدث له مكروه لا قدر الله!، زيارتك للمريض... كل هذه المواقف من جميل جبر الخواطر والإحساس بمن حولك وشعورك الطيب بالسؤال عن أحوالهم، والسعي في رفع الظلم عنهم ورفع معنوياتهم. إلى رب الأسرة... أيها الأب، ما أجمل هذه الصفة في الآباء! جبرك لخواطر أبنائك وبناتك في إخفاقهم وتعثرهم والمواقف الصعبة التي يمرون بها في حياتهم الدراسية والشخصية ودعمك لهم يُقوِّيهم، وله أثر عظيم على مستقبلهم. جبرك بخاطر زوجتك بعد تعبها من أجل خدمتك ورعاية أبنائك من حُسن العشرة وجميل المودة بين الزوجين، وكذلك لك أيتها الأم في جبر خاطر الزوج من المشاكل التي يعاني منها في العمل أو في الحياة بشكل عام، كوني له مثل خديجة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم. ورسالتي إلى كل من أساء إلى أي إنسان أو ظلمه أو آذاه سواء من الناحية المادية أو المعنوية؛ اجبر بخاطر من أسأت إليه وظلمته، واعتذر وقت الاعتذار ولاتكابر، وارجع إلى الله وتب إليه وتحلى بهذه الخصلة الراقية والعبادة العظيمة. فلنحرص جميعًا على جبر خواطر مَن حولنا من الأهل والأرحام والجيران والزملاء وكل شخص يحتاج منا إلى جبر خاطره حتى لو كنا لا نعرفه معرفة شخصية، فهذه قُربة إلى الله تؤجَر عليها، ولا تدري ماذا تفعل بصاحبها، ربما تبعث فيه روح التفاؤل وتساعده على القيام بعد الانكسار ومواصلة مشواره من جديد، فالكلمة التي تخرج من القلب لا شك تصل للقلب. ◄ دعاء: اللهم إنا نسألك جبرًا ليس بعده انكسار، فأنت الجبار الذي بيده جبر المنكسرين والحيارى والتائهين في دروب الحياة. اللهم جَمِّلنا بهذا الخُلُق الجميل، واجعلنا لخواطر عبادك من الجابرين... اللهم آمين. [email protected]