13 سبتمبر 2025

تسجيل

تونس على صراط الذين أنعمت عليهم

05 نوفمبر 2014

مهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية التونسية التي جرت هذا الأسبوع فإن العبرة الكبرى منها هي أن الاستبداد ضرب في مقتل يوم 17 ديسمبر 2010 ولفظ أنفاسه يوم 14 يناير 2011 وتم دفن جثته المتعفنة يوم الانتخابات 26 أكتوبر 2014 ومهما قيل عن بعض الأخطاء في التقدير أو التجاوزات أو الإخلالات فإنها أهون ألف مرة من مشهد الرائد محمد المنصوري وهو يخضع لتعذيب زبانية الاستبداد عام 1987 حتى ملاقاة ربه في ظروف القمع والقتل والتشريد وملاحقة المحجبات وتأميم المساجد وتكميم الأفواه وانتشار الفساد في الأرض. وسبق أن قلت في مقالات سابقة بأن الديمقراطية حتى بمظاهرها الكوميدية أو انفلاتها في استعمال الحرية تظل أفضل ألف مرة من وقار الدكتاتورية وهو وقار مزيف يخفي وراءه كل مساوئ الفساد وهو أيضا صمت مفروض بالقوة كأنه صمت المقابر ضد إرادة الحياة. اليوم اختار أغلب الشعب التونسي مشهدا جديدا للسلطة التشريعية بعد مرحلة مؤقتة طالت ثلاثة أعوام واستخلص الشعب منها دروسا قاسية لتقدير عهد ما بعد الثورة وتغيير بعض ما كان فيه من منكر ناتج عن قلة الخبرة وكثرة الحسابات طالت مدته من سنة واحدة لتحرير دستور جديد للجمهورية الثانية إلى ثلاث سنوات تعطلت فيها التنمية وانخرم الأمن وأصاب الناس خلالها يأس من النخبة السياسية المؤقتة فقام الشعب بمعاقبتها عقابا عسيرا في انتخابات 26 أكتوبر ليقلص تلك الأحزاب المتورمة إلى حجمها الحقيقي بقصد الانطلاق نحو المستقبل برصيد من التجارب ثري وبكنز من العبر ثمين. لقد مررنا بعهد الارتجال والتسرع وتصفية الحسابات لتكتشف الفصائل التي حكمت ضمن الترويكا بأن أبرز أخطاء حركة النهضة فيه وهي المحرك الأول للسلطة الثلاثية أنها تخلت تدريجيا عن أغلب ثوابتها الفكرية ظنا من قيادتها أنها بذلك تتنازل للحركات العلمانية لتكون مقبولة في الغرب فلا تثير الرأي العام الغربي (لا العالمي) بتنفيذ رؤيتها لمجتمع وطني مسلم تنبع قوانينه الأساسية من شرع الله أو على الأقل لا تناقضه فصار برنامج النهضة هو نفس برنامج الزعيم بورقيبة المنادي بفصل الدين تماما عن السياسة وعدم المساس بأية قاعدة من قواعد ما يسمى بالنمط التونسي الحداثي (وفي الحقيقة البورقيبي) رغم مساوئه البينة بعد ستين عاما من البورقيبية والنوفمبرية. إلا أن النهضة اختلفت مع الحكم البورقيبي في خيار الديمقراطية والرضى بالتداول على السلطة وضرورة احترام حقوق الإنسان وهو أضعف الأيمان بالنسبة لحركة قدمت الشهداء والمساجين والمطاردين في المنافي ثم إن الخطأ الثاني هو سوء اختيار من يمثلها في الحكومتين (حكومة الجبالي وحكومة العريض) فسجل الناس ضدها كل خلل شخصي لوزير متدرب على ملفات الوزارة وأعتقد أن حركة النهضة قرأت تدنيها اليوم إلى الدرجة الثانية قراءة موضوعية وتهيأت للمشاركة في الحياة السياسية القادمة بعقلية متجددة وفكر نير ربما في الضفة الأخرى من السياسة أي المعارضة الديمقراطية ولا ضير في ذلك مادام في صالح البلاد حتى يتاح للإسلاميين التوانسة البقاء في الفضاء العام وعدم العودة للعزلة والمهمشية والخوف من السيناريوهات المصرية أو الليبية. وقدرها اليوم أن تبقى في هذا الفضاء العام مدافعة عن نمط أصيل للمجتمع التونسي بجرأة حتى لو كانت النهضة هي الأقلية وهو أفضل لها من أن تحاول كسب الأنصار على حساب مبادئها وتعيش بقلب مزروع لم يعد يعرفه مؤسسوها الذين عرفتهم في سنوات المنفى والجمر وتقاسمنا معهم فضيلة الصبر والجهاد من أجل تغيير المنكر ولم تعد كذلك تقتنع به قواعدها المستقرة في المجتمع التونسي والعربي. ومن أخطاء الثلاثي الحاكم جميعا أنه تخلى عن سياسة خارجية قوية ومبدئية وأصيلة وخادمة لمصالح الشعب فتشكل نوع من الاضطراب في مواقف بلادنا لم تعهده الدبلوماسية التونسية التي تعود إلى العصر الفينيقي ودولة قرطاج منذ ثلاثة آلاف سنة حين كانت قرطاج تنافس الإمبراطورية الرومانية على سيادة إفريقية وحوض البحر المتوسط ثم حين كانت منطلق الفتوحات الأندلسية والأوروبية والإفريقية في فجر الإسلام منذ سنة 50 هجري مع تأسيس القيروان على أيدي عقبة بن نافع.اليوم تغيرت الخارطة السياسية لتونس وبعث الناخبون برسالة لحكامه الجدد وهي رسالة أمل وتعادلية بين الأصالة والحداثة فكان التصويت للنهضة رغم نقضها لفكر الهوية تصويتا لما يمكن أن تمثله النهضة من تمسك بالثوابت على الأقل كما كان التصويت لحزب نداء تونس والإتحاد الوطني الحر والجبهة الشعبية وآفاق تونس تعبيرا من الأجيال الشابة على تمسكها بالانفتاح على العالم الواسع وتشبثها باستمرار الدولة التونسية كدرع ضد الفتنة التي نراها على حدودنا الجنوبية في ليبيا الشقيقة أو الفوضى العارمة التي طغت على أصوات الحكمة في كل من العراق وسوريا ويمكن القول بلا تردد بأن الأنموذج التونسي في هذه اللحظة التاريخية أثبت نجاحه وتوفقه إلى الوفاق دون عنف ودون سفك دماء بريئة ودون الوقوع في فخ المساومات الشخصية والحزبية والقبلية على حساب مستقبل أجيال تونس. وإذا استخلصنا العبرة من الاستحقاق التشريعي لابد أن نبدأ في هندسة استحقاق الرئاسيات ليوم 23 نوفمبر القادم حتى تكتمل مسيرة الديمقراطية المدنية الهادئة وتبلغ بلادنا شاطئ الأمان كما نرغب فالرئيس المنتظر عليه وفي رقبته أمانة ثقيلة يؤديها من أجل عودة الهيبة والرفعة والأخلاق لمنصب الرئيس لا تلك المظاهر الخادعة من الهيبة المستبدة والرفعة الزائفة والأخلاق الكرتونية كما كان الحال منذ أن أصيب الزعيم بورقيبة بأمراضه العضوية والعقلية وتحولت تونس إلى مهزلة الأمم في الثمانينات فحكمت بلادنا امرأة محدودة المدارك أمية بمعنى الجهل الفادح تحولت بسبب خرف الزعيم إلى سيدة البلاد والعباد إلى أن أفتك منها الحكم الجنرال زين العابدين بن علي يوم 7 نوفمبر 1987 فالرئيس الذي سينتخب في الأيام القادمة هو حامي الدستور وجامع التوانسة كلهم والحكم (بفتح الحاء والكاف) بين كل الفصائل والمترفع عن الفئوية والجهوية والقبلية والطبقية فيكون حكمه منارة في تاريخ بلادنا الحديث لا مصيبة أخرى تنزل على رؤوس الناس ونتحول من بلاد أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان إلى بلاد كفرت بأنعم الله ونتذكر أية من القرآن المجيد هي (112): وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.