13 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); لم أثن من قبل في مقال على حاكم قطر، وليس هذا من شأني، وكنت طيلة عمري أتجنب اللقاء بالمسؤولين الكبار حتى لا يزل لساني يوما بكلمة ثناء لا يستحقونها، أو أضطر لالتزام الصمت ـ تجنبا للأذى ـ في موطن يجب فيه الكلام.لكني هذه المرة قررت أن أخرج على هذا السياق، وأسجل كلمات في حق حاكم شاب وفقه الله ليقول كلمة الحق أمام المجتمع الدولي بكل جراءة، وحكمة، وسداد.وأعني بذلك سمو أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها الأخير.والسبب الذي دفعني إلى ذلك أن ما فعله الرجل كان ـ بحق ـ حجة على الآخرين من أمثاله، الذين يؤثرون السلامة في مثل هذه المواقف، ويهملون ما بعاتقهم من أمانات تقتضي منهم كحكام ألا يصمتوا على الظلم الواقع بحق شعوبهم وأمتهم.وللأسف فإن هذا النمط أصبح هو الطاغي على المشهد الدولي والصورة المألوفة عن الحكام، حتى غدا كأنه الأصل، وبهذا يكون ما أقدم عليه أمير دولة قطر رعاه الله، بمنزلة الربت على الأكتاف للإيقاظ في سبيل عودة الحق إلى نصابه، والطرق بقوة على ضمائر الحاضرين في أخطر مؤسسة دولية، وهذا ـ في تقديري ـ يستحق من أهل العلم والنهي دعمه وتأييده، والشد على صاحبه، فما استمرأت الدول الكبرى ظلمنا إلا حين لمست من حكامنا صمتا ووهنا.الخطابات في مثل هذه المحافل ـ باستثناء القذافي الذي كانت صراحته المبالغ فيها تفقد خطابه أحيانا جانب الجدية ـ يغلب عليها جانب المجاملة، ومراعاة المصالح مع الدول الكبرى، والمتنفذة في السياسات العالمية، ويمر المتحدثون عادة على أزمات الشعوب التي صنعتها هذه الدول مرور الكرام، وبقدر ما يوحي بإسقاط الفرض ـ كما يقال ـ أمام شعوبهم، وفي كثير من الأحيان كانوا يتجاهلون قضايا شعوبهم عن عمد وإصرار حتى لا يثيرون حفيظة دول صديقة كبرى أو صغرى أو يستجلبون عتابها، وربما عقوباتها، وهو سلوك كان يشعل في نفوس الشعوب المقهورة غضبا عارما.الخطاب - في الواقع - شدتني إليه أهميته من حيث المكان والزمان والصراحة والوضوح.أما المكان فهو الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تجتمع دول العالم كلها، ويلتقي قادتها وحكامها بعضهم بعضا ووجها لوجه، من غير حجب ولا ستر، هنا أمريكا وبريطانيا وروسيا، هنا الصين وإيران وفرنسا، هنا قادة العرب، ومن يسوس الناس في الشرق والغرب، هنا ـ باختصارـ خارطة العالم من المحيط إلى المحيط، الظالم هنا والمظلوم هنا، القوي هنا، والمقهور هنا، الغني هنا والفقير هنا، فأي فرصة أكثر من هذه ذهبية ليقول المكلف بشؤون الرعية، والمعني بهموم أمته كلمة الحق، ويضطر الجميع لسماعها منه، بحلوها ومرها، ووقعها وتبعاتها، شاءوا أم أبوا، وإذا كان سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فما بالك بكلمة حق تقال أمام قمم الجبروت في العالم.كان بمقدور الزعيم الشاب أن يكتفي بخطاب هادئ، أسوة بزعماء كثيرين سواه، ألمع منه اسما، وأعرق حكما، ويقتصر على تلميحات هي إلى المجاملات أقرب منها إلى الاحتجاج كما يفعل الآخرون، وسينال من الجميع التصفيق المعتاد، ومن القادة الكبار كلمات الثناء والتقدير، ويعود أدراجه من حيث أتى دون شيء يذكر، لكن الرجل ـ على ما يبدو ـ قدر أهمية اللقاء، وخطورة المكان، وذهبية الفرصة، فاتخذ قراره بوضع عدد من قادة العالم أمام جناياتهم بحق الشعوب، والدول الضعيفة، ليزيح عن كاهله شيئا من المسؤولية الملقاة على عاتق الحكام.أما الزمان، فهو الأصعب، والأسوأ، والأكثر ظلما ودموية بحق العالم الإسلامي، والعالم العربي خاصة، الذي ينتمي الحاكم الشاب ودولته إليهما، ويتحمل بداهة المسؤولية في الدفاع عنهما، والكشف عن معاناة شعوبهما، ورصد الظلم الواقع عليهما.وكثير من الزعماء يفضلون في مثل هذه المواطن أن يقتصروا في الشكوى على هموم بلدانهم خاصة، ويجنبوا أنفسهم الخوض في معاناة الآخرين، رغم ارتباطهم معهم بوشائج الدين أو اللغة أو العرق، أو غير ذلك من الوشائج، كما أن الدول التي تتمتع بشيء من الاستقرار والرفاه، تكون خطابات زعمائها قصيرة في العادة، وبقدر ما يكشف عما تشهده دولهم من تقدم وازدهار، وما يقدمونه كقادة لهذه الدول من إنجازات ودعم.لكن الحاكم الشاب الذي تتميز دولته بمزايا عديدة، تجعلها في مقدمة الدول ذات التطور والازدهار،لم يشأ أن يسلك هذه السبيل، بل اختار أن يبعث برسالة إلى العالم الإنساني كله مفاده أنه معني بهموم عالميه العربي والإسلامي، حريص على المطالبة بحقوق شعوبهما، والسعي في دفع الظلم عنهم،ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وكأنه يستذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) وهذه تسجل له، فتراه تحدث في شأن الخليج، مثلما تحدث في شأن العراق، مثلما تحدث في شأن سوريا واليمن، مثلما تحدث في شأن فلسطين، على نحو من الشمولية والدقة في التشخيص، واقتراح المعالجات، فكان خطابه مستوفيا لشروط النجاح بكل ما لهذه الكلمة من معان وأبعاد. أما من حيث الصراحة والوضوح فأحب أن أسجل أولا أن الخطاب اتسم بالدبلوماسية العالية، وهو أسلوب عادة ما تتبعه الدول في مثل هذه المحافل، لكن ما يميز هذا الخطاب أن دبلوماسيته لم تكن ـ كما هو حال كثير من خطابات الدول ـ على حساب بيان الحقيقة بصراحة ووضوح، بمعنى أنه بانتقائه الألفاظ غير المستفزة، لم ينل من جوهر الحقيقة، ومن تحميل الظالمين المسؤولية عما تجنيه أيديهم بحق الشعوب، فهو لم يخفف من وصف الجناية بما يجعل الجاني يرمقه بعين الرضا، كما يفعل كثيرون، بل وضع الجاني أمام جنايته كفاحا، وسبب له أمام العالم حرجا، وكان هذا مهما للكشف عن معاناة الشعوب، وليشعر الجميع أن ثمة من أنصف الضحية أمام الجلاد.