16 سبتمبر 2025
تسجيلالأمانة من أعلى وأجلِّ الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها كل مسلم لأنها خُلُق رفيع يُكسِب النفسَ إيمانًا قويًّا ومراقبةً دائمة للمولى سبحانه وتعالى، ويحتاج إليها الإنسان في شتى تعاملاته وأموره الحياتية، ومن أخصِّ المَواطن التي تحتاج إلى الأمانة في حياتنا العامة هي الاستشارة في أمر من الأمور المصيرية التي تؤثِّر بشكل كبير في حياة الشخص الذي يطلب المشورة من أخيه أو قريبه أو صديقه أو زميله، فلا بد من الأمانة في إعطاء المشورة للآخرين؛ وذلك مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الهيثم بن التيهان: "هل لك خادم؟ فقال: لا. قال: "فإذا أتانا سبي فأتنا. فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهما. فقال: يا نبي الله! اختر لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المستشار مؤتمَن. خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفًا". رواه الترمذي. فهذه العبارة القوية الجامعة (المستشار مؤتمَن) تُعدُّ من جوامع الكلم التي تدل على نبوته صلوات ربي وسلامه عليه. وفي إطار تفصيل معنى هذه العبارة لدينا عدة أسئلة نود طرحها والإجابة عليها: هل الاستشارة لها مواطن محددة كالاستشارة في الفتوى الدينية أو الاستشارة القانونية أو الطبية، أم أن الاستشارة لها معنى أكبر وأوسع من ذلك؟ وكيف تكون الاستشارة؟ ومن الذي نستشير؟ وهل للمستشار صفات يجب أن تتوافر فيه؟ وما الذي ينبغي على المستشار أن يراعيه في إعطاء المشورة للآخرين؟ كل هذه الأسئلة مهمة والإجابة عليها توضح لنا أهمية الأمانة في المشورة. أولا مواطن الاستشارة مفتوحة لا تقييد فيها، فكل أمر لا يمكنك أخذ قرار فيه وتحتاج إلى رأي ومشورة أهل الخبرة والتجربة يجب عليك الاستشارة فيه، فالاستشارة مفهومها واسع شامل. وتكون الاستشارة في الغالب في مهمات الأمور أي الأمور العظيمة التي يحتاج صاحبها إلى تفصيل وبيان. أما عن كيفيتها فتكون بطرح الأمر بشتى جوانبه وأبعاده على المستشار حتى يتبصَّر بالأمر كله ويعطيك المشورة المناسبة لحالتك. والشروط التي يجب توافرها في المستشار أن يكون عاقلًا كتومًا وذا تجربة ورأي سديد. كما جاء في الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تعْصوهُ فَتَنْدَمُوا". والواجب على من استُشير واستُنصِح أو سُئل رأيَه في أمرٍ أن يكون أمينًا ناصحًا لمن استشاره واستنصحه وسأله؛ فلا يجوز له أن يغشه أو أن يخونه أو أن يكتم عنه ما يجب توضيحه. وينبغي على المستشار أن يكون ناصحًا ودودًا كما قيل: إن النصح والمودة تدل على صدق الرأي وعمق التفكير ومحبة الخير. -وينبغي على المستشار ألا يكون صاحبَ هوًى أو غرض شخصي، وينبغي ويتعين عليه الجواب إذا كان من أهل التخصص وإلا فلا يعطي مشورته لأحد في أمر لا يتناسب مع مجاله؛ فإن إحجامه عن إعطاء المشورة أفضل من القول بلا علم. فالخلاصة: أن مَن استشارك وضع على عاتقك أمانةً فأدِّ واجبَ الأمانة له، وبرِّئ نفسك من تبعات تلك المسئولية. والجواب على الاستشارة يكون بإعطاء الرأي أو النصح أو التوجيه بما تفضَّل الله به عليكَ من علم أو خبرة أو تجربة أو معرفة أو دراية. ومن أمثلة الاستشارة المهمة المتكررة في الحياة العامة: إذا استشارك أحدهم برغبته في الزواج من امرأة أنت تعرف نشأتها وتربيتها وتعرف منها سوء أخلاقها وقلَّة ديانتها وغيرها من الصفات السيئة المذمومة غير المحمودة، فإذا أجبتَه بأنها طيبة خلوقة ونحو ذلك بما ليس فيها فقد غششتَه، وخنتَ الأمانة، وكتمتَ عنه ما ينبغي بيانه حتى لو كانت هذه المرأة أختَكَ أو بنتَكَ. وكذلك إذا استشارك أحد في خاطبٍ تقدَّم لابنته أنت تعرف خُلُقه ودينه وَجَب عليك البيان والتوضيح والأمانة في إجابتك على من طلب مشورتك، ولا يُكتفَى في الاستشارة بأن تردَّ على المستشير بالجواب المجمل فقط، بل لا بد من التفصيل والتوضيح؛ فالواجب على المستشار أن يُبين للمستشير التعليلَ والشرحَ لما أشار به، إن كان اختيارًا يبين سبب اختياره، وإن كان تركًا يبين علَّة الترك، وتوصيه بما هو خير وأكثر نفعًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابي فقال: يا رسول الله! اختر لي. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذ هذا، فإني رأيته يصلي واستوصِ به معروفًا" فدلَّه على سبب الاختيار وعلة التفضيل ولم يقف عند ذلك فحسب بل أوصاه به. ومن الأمور المهمة التي ينبغي معرفتها عند الاستشارة هي احترام التخصص بمعنى أن نستشير كل صاحب مجال في مجاله؛ فمشورة الفتوى من أهل الدين، ومشورة العمل من أصحاب الأعمال، ومشورة الزواج من الأهل ومَن هم على دراية تامة بالأمر، ومشورة القانون من أهله، ومشورة الطب من أهل الطب... وهكذا في شتى المجالات يجب مشورة أهل الاختصاص. ويجب علينا أن نستشير صاحب الدين والتُّقَى والصلاح والاستقامة؛ لأن استشارة مَن ليس به خير ولا دين كثيرًا ما تعود على المستشير بالوبال والخسران. وقد ذكر البخاري رحمه الله: كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء أهل العلم. وفى الختام: أوصيكم ونفسي بالتحلي بأخلاق النبوة في كل أمور حياتنا وتحرِّي الأمانة في الاستشارة؛ وليتق اللهَ كلُّ مستشار فيما يُستشار فيه، وليعلم أنها أمانة لقوله صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمَن". أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الأمانة والرأي السديد والمشورة الصالحة الناصحة... اللهم آمين. [email protected]