17 سبتمبر 2025

تسجيل

الوجه والقناع

05 سبتمبر 2013

يعرف الذين يشاركون في الحفلات التنكرية أن عليهم أن يخفوا شخصياتهم الحقيقية عن الآخرين، بل عن أقرب الناس إليهم.. فقد ترتدي سيدة ثرية ملابس خادمة، وتتقنع بقناع يجعلها تبدو في هيئة بائسة زرية، وقد تكون طبيعة إنسانة أخرى طبيعة غائصة في الوحل والثرى، لكنها تضع قناعا باهرا وساحرا يجعلها في هيئة من تتعالى إلى نجوم السماء، وصاحب القلب الطيب قد يرتدي قناع إنسان شرير، تنبئ ملامحه عن الإجرام المتأصل .. وهكذا .. ولكن في خاتمة تلك الحفلات التنكرية يعود كل إنسان من المشاركين فيها إلى طبيعته المعتادة وشخصيته المألوفة بعد أن يخلع القناع الذي يخفي به وجهه الحقيقي. هذا بعض ما يحدث في الحفلات التنكرية. أما في الحياة ذاتها، فإن هناك بعض النماذج البشرية التي يطيب لأصحابها – لأسباب متعددة ومختلفة – أن يضعوا أقنعة تداري طباعهم وسلوكياتهم.. فهناك من يكره الآخرين في أعماقه ولا يحب أحدا غير نفسه المريضة، لكنه يرتدي أمام الآخرين ممن يجهلون أعماقه الحقيقية قناع الطيبة والنقاء لكي يخفي به ما في أعماقه الخفية التي لو اتضحت للآخرين لأدركوا أنه أقرب إلى الشيطان.. وهناك من يخدع الآخرين لوقت طويل بفضل براعته في ارتداء قناع الفضيلة والسمو والرقة، بينما هو – في واقع الأمر – إنسان له نزواته وعلاقاته المريبة وتصرفاته القبيحة، ومثل هذا الإنسان يظل أمام الآخرين إنسانا فاضلا وساميا ونقيا، إلى أن يكتشف واحد من هؤلاء الآخرين أو عدد منهم حقيقة هذا الإنسان الذي خدعهم لوقت طويل. يتوقف على سرعة أو بطء اكتشاف حقيقة الإنسان الذي يرتدي قناع الخداع مدى ذكاء ودهاء هذا الإنسان أو مدى تبلده وغبائه، فهناك إنسان يظل يخدع الآخرين سنوات عديدة، وهناك من لا يستطيع أن يخدع الآخرين إلا لفترة قصيرة، وسرعان ما يفتضح أمره وينكشف سره. حول سرعة أو بطء اكتشاف حقيقة الإنسان الذي يضع على وجهه قناع الخداع سألني أحد الأصدقاء: هل يستطيع الكاتب الأديب أن يكتشف حقيقة الإنسان الذي يرتدي قناع الخداع بصورة أسرع من غيره؟.. الأمر هنا يتوقف على هذا الكاتب الأديب، فمن الأدباء من يتغلغلون في أعماق النفس البشرية، حتى لو كانوا لم يقرأوا أبدا أي كتاب علمي من كتب علم النفس، وهناك من تبدو معرفتهم بالنفس البشرية سطحية.. الطراز الأول من الأدباء يكتشف بسرعة وبسهولة.. أما الطراز الثاني منهم فإنه لا يستطيع أن يكتشف بنفس السرعة والسهولة، وحين يكتشف فإنه يبدو مندهشا وتنعكس هذه الدهشة على كتاباته. من أجمل القصص القصيرة العالمية في هذا المجال قصة لعملاق هذا الفن  أنطون تشيخوف، وهي بعنوان القناع، أما في شعرنا العربي الحديث فقد كتب كثيرون من النقاد عن ظاهرة الوجه والقناع، وذلك من خلال تحليلهم لقصائد من شعر بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور. هؤلاء الشعراء الكبار استخدموا القناع باعتباره أداة فنية موفقة، فقد يتحدثون بضمير المخاطب أو بضمير الغائب عن تجارب ذاتية، سواء كانت شخصيات حقيقية أو أسطورية ليعبروا من خلالها عما يجيش بأعماقهم هم، وعلى سبيل المثال فإن لعبد الوهاب البياتي قصائد عديدة، تبدو وكأنها تصور أعماق المتنبي أو المعري أو عمر الخيام، لكنها – في حقيقة الأمر-  تصور أعماق عبد الوهاب البياتي نفسه. وهناك السندباد الذي يتجلى في قصائد عديدة من شعر صلاح عبد الصبور، فهو لا يقصد أن يرسم صورا شعرية للسندباد، بقدر ما يقصد أن يصور أعماقه هو ولكن من خلال شخصية السندباد، وعلى ضوء هذا اصطلح كثيرون من النقاد على تسمية هذه النماذج الشعرية العميقة بأنها: الوجه والقناع.