12 سبتمبر 2025
تسجيلمع أن إعلان إفلاس مدينة ديترويت الأمريكية يأتي ضمن خطوة لحمايتها من الدائنين، وهي أكبر مدينة تعلن إفلاسها في الولايات المتحدة حتى الآن، حيث بلغ حجم الديون المترتبة عليها 18 مليار دولار تقريبا، إلا أن هذا الإعلان يحمل بين طياته الكثير من العبر والدروس التي يمكن أن تستفيد منها بلدان العالم ومدنه، فمدينة ديترويت ظلت وعلى مدى خمسة قرون عاصمة عالمية لصناعة السيارات، إذ تواجدت فيها أهم ثلاث شركات لصناعة السيارات الأمريكية، وهي جنرال موتورز وكرايسلر وفورد. ولم تستغل مدينة ديترويت الواقعة في ولاية ميشيجان العصر الذهبي لصناعة السيارات الأمريكية، وهو عصر طويل نسبيا امتد لنصف قرن، فوقعت في خطأين رئيسيين، الأول أن أنشطتها الاقتصادية اقتصرت أساسا على صناعة السيارات والخدمات المرتبطة بها ولم تحاول تنويع اقتصاد المدينة واستغلال كونها ولاية أمريكية تتمتع بوجودها ضمن أكبر سوق في العالم. وثانيا، في الوقت الذي زحف فيه الترهل تدريجيا لصناعة السيارات الأمريكية والتي أصيبت بنوع من الغرور، كانت صناعة السيارات في البلدان الأخرى، وبالأخص في ألمانيا واليابان تحقق تقدما سريعا من خلال تطوير هذه الصناعة وإدخال تقنيات جديدة، في حين ظلت صناعة السيارات الأمريكية معتمدة على تاريخها العريق الذي تجاوزه الزمن وطالته عمليات فساد أضرت به كثيرا. ومع أن إدارة المدينة انتبهت للتغيرات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة وأدخلت تغيرات تقنية مهمة في السنوات القليلة الماضية، إلا أن الوقت كان متأخرا، حيث تغيرت أصول اللعبة ودخل السوق وبقوة منافسون جدد، ككوريا الجنوبية والبرازيل ومؤخرا الصين، وذلك إضافة إلى المنافسين التقليدين في أوروبا واليابان. والنتيجة كانت كارثية على مدينة ديترويت، حيث تعتبر هذه الأزمة انعكاسا لأزمة صناعة السيارات الأمريكية من جهة وأزمة هذه المدينة من جهة أخرى والتي هجرها معظم سكانها والذي يبلغ الآن 700 ألف نسمة، مقابل أكثر من مليونين قبل الأزمة، كما أن هناك ما يقارب من 80 ألف منزل وبناية سكنية وتجارية إما أنها هدمت أو أصبحت خالية، بحيث تبدو الصور وكأن المدينة قد تحولت إلى مدينة أشباح بطيئة الحركة وتدهورت فيها مستويات الخدمات الضرورية، مما يعني أن مزيدا من السكان سوف يرحلون عنها في الفترة القادمة، خصوصا وأن الضرر ربما يطال المتقاعدين أيضا، إذ يدور الحديث حاليا عن إمكانية إلغاء معاشات التقاعد، وذلك رغم أن هذه المعاشات تتمتع بحماية الدستور. يحدث ذلك في مدينة أمريكية وفي أغنى دولة في العالم، فما هو الحال إذا ما تكرر ذلك في دولة نامية وفقيرة، إذ إن العواقب ستكون وخيمة، مما يتطلب الاستفادة من هذه التجربة ومن تجارب أخرى غنية، فمدينة مانشستر البريطانية والتي كانت مركزا عالميا لصناعة الأقمشة كادت أن تنهار بعد أن انهارت فيها هذه الصناعة بسبب المنافسة الخارجية والتي أزيحت من خلالها إنجلترا كأكبر مصدر للأنسجة في العالم، إلا أن القائمين عليها اتخذوا خطوات سريعة لتنويع اقتصاد المدينة والتي تحولت مع مرور الوقت إلى مركز للتعليم الجامعي، مثلها مثل مدن عريقة، كأكسفورد وكامبردج، وذلك إلى جانب تنمية قطاعات خدمية وإنتاجية أخرى مربحة، مما جنب المدينة الانهيار ووضعها من جديد بقوة على خارطة الاقتصاد البريطاني. بالتأكيد ليس من السهل القيام بعملية التنوع أو التحول من مركز لقطاع اقتصادي معين إلى قطاع آخر، إلا أن استشفاف المستقبل ومراعاة التحولات التكنولوجية والعلمية التي تؤدي إلى إحداث تغيرات في طبيعة السلع المستهلكة ومدى تلبيتها لاحتياجات المستهلكين في ظل ثورة المعلومات مسألة مهمة للحفاظ على النمو والبقاء ضمن دائرة المنافسة، حيث تعتبر الصعوبات التي تمر بها شركة "نوكيا" الفنلندية لصناعة الهواتف المتحركة مثال آخر على سرعة هذه التغيرات التكنولوجية والتي لابد من مجاراتها والتأقلم معها من خلال تطوير الأدوات الإدارية والاهتمام بالابتكارات والمواهب القادرة على الاختراع والإبداع.