14 سبتمبر 2025
تسجيلوصلنا سابقا إلى مرحلة سير الرأسمالية العالمية ونظامها «الديمقراطي» بالإنسانية، في مسار عكسي لمفاهيم الدولة والحرية، بسعيها إلى «تشييء» الإنسان، والتحكم في تفكيره وقراره واختياره، لخلق عالم تتراجع فيه قيمة الإنسان البشري مقابل «الإنسان التكنولوجي» أو «سايبورج»، ليتضح بذلك أنه لا يسير فقط عكس مسار «نظام ويستفاليا»، بل عكس مسار البشرية برمتها منذ خلق الله الأرض، ضمن عملية كبرى لإشاعة الشذوذ الفكري والجنسي. كنا قبل عقود قليلة نظن أن تغيير خلق الله هو عمليات التجميل، ثم صُدمنا بعمليات تغيير الجنس، ثم صُدمنا بالروبوتات، والآن نُصدم بمحاولات اختراع الـ «ساييورج». قد ينظر البعض إلى ذلك بأنه من إنجازات العلم، لكن نظرة متأنية، في ضوء عملية تغييب الدين، تظهر أن الحاصل ما هو إلا انتكاس للفطرة الإنسانية، وهدفه، برأي كثيرين ليس تسهيل حياة البشر وإنما التخلص من أكبر عدد منهم، فكلما تزايد اختراع الآلة قلت أهمية الإنسان. ويذهب كثيرون إلى أن ما عرف للآن عن أبحاث «يوجينيكس» أو ما يسمى «تحسين النوع البشري»، وأساسها «نظرية التطور» الباطلة، لم يكن إلا دربا في هذا الطريق، ومحاولة عبثية للوصول إلى سر الروح والخلود. وقد أصدرت شركة «كاسبرسكي لاب» أخيرا تقريرا ذكرت فيه أن الحدود الفاصلة بين البشر و»الإنسان التكنولوجي» ستتلاشى قريبا، تزامنا مع تصريحات لأشخاص يسمون «علماء» منهم يوفال هراري، الذي يقول:»إننا قريبا سنبدأ هندسة الأجسام والعقول» وأن البشر الحاليين هم آخر جيل للإنسان بشكله الحالي. يتضح الآن أن الهدف من هذه الرحلة الطويلة كان التأسيس لنظام عالمي جديد. هذا ما أعلنه فعليا كلاوس شواب، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي، وسماه، في كتاب أصدره في 2020، «ذا جريت ريسيت» أو إعادة الضبط الكبرى» للعالم. أي وضع ضوابط جديدة لحكم العالم تتوافق مع ما سماه المعطيات الجديدة التي قال إنها تستدعي وجود نظام حكم عالمي مختلف، وقصد بها تداعيات جائحة كورونا التي شكك كثيرون، بينهم مخترع الكوفيد نفسه، بأنها كانت عملية منظمة للسيطرة على البشر. في كتابه لا يتورع شواب، عراب النظام المزمع، عن التبشير بـ «عقد اجتماعي جديد» معتبرا أن «النظم القديمة أظهرت عدم استدامتها». كما يتحدث عن العالم وكأنه ملكية خاصة بحديثه عن «مشروع شامل يجب أن تنخرط فيه كل الشعوب، لإعادة ضبط «حضارتنا» وتأسيس مجتمعات جديدة ضمن «مستقبل واحد للبشرية»، مطالبا بأن تترك قيادة العالم الجديد لـ»النخبة العارفين» لأن «العامة لا يملكون المعارف الكافية»!. وقد وجد هذا المشروع منتقدين كثرا، لما رأوا فيه من ديكتاتورية فاضحة وتعال مخيف في الطرح، وقالوا إن ما يخفيه برنامج «إعادة الضبط»، هو محاولة لتجاوز دور الدولة الوطنية التي كانت أساس النظام العالمي الحالي، ووضع السلطة في يد الشركات وأصحاب المصالح الاحتكارية، وهو ما ذكره شواب بصياغة مختلفة. الفرنسي إريك فيرهاش، نظر بعين الريبة إلى التحول التكنولوجي الرقمي، أو ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة، كونه سيؤدي لاستبدال الآلات بالبشر، وإيجاد مجتمع خاضع للرقابة الشمولية. أما أشد المنتقدين لهذا التوجه فكان أليكس جونز، المعروف بانتقاده اللاذع للسياسة الأمريكية، إذ نبه إلى أن ما يسمى الذكاء الاصطناعي سيستخدم في تعقب واضطهاد الإنسان، المربوط كليا بالشبكة، وتحليل أفكاره ومعاقبته على الفور، بوقف مستحقاته البنكية مثلا، إزاء أي تفكير يخالف أهواء النخب الحاكمة، تماما كما تنبأ جورج أورويل في رائعته «1984»، الشهيرة بفكرة «الأخ الأكبر»، ما سيجعل البشر، برأيه، يعيشون في سجن جماعي، تحت شعار «سعادة بلا ملكية»، حيث يتضمن المشروع إلغاء الملكيات الفردية وجعل الملكية مقصورة على النخب. ولم يترك الرئيس الأمريكي جو بايدن مجالا لتقليل مخاوف المنتقدين عندما وصف نموذج الحكم الصيني بأنه مُلهِم. هنا يتدخل شون روزنبرغ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، معلقا على هذا المنحى بقوله: «الديمقراطية تلتهم نفسها، ولن تدوم»، فعندما يكتمل نظام «الجريت ريسيت» سيفقد الإنسان العادي قيمته بالكلية ويصبح الروبوت أهم منه وتنحصر القيادة في النخب وتغلق دائرتها عليهم عن طريق تحكمهم في نخبة التعليم، وتحكمهم باختيار من ينضم اليهم وهو ما وصفته دورية «هارفارد ريفيو»، في عدد حديث، بأنه خطر حقيقي على تفريخ القيادات في العالم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن «أنبياء العولمة» الذين تحدثنا عنهم سابقا، مهدوا لهذه التطورات بهذا تتأكد فكرة موت النظرية السياسية التي أشرت إليها سابقا، إذ لم تعد هناك أي نظرية تفسر النظام الحالي. وهي لم تطرح إلا كعنصر في سياسة التلاعب بالمسميات، وتم خلطها بفلسفات فارغة، منها «اليوتوبيا الأفلاطونية»، و»اليوتوبيا الشيوعية»، ضمن عملية تغييب الدين. ولعلها ولدت ميتة، لأنها جاءت أصلا من سفاح تلك الأفكار وليس من الفكر المرجعي والوحي الإلهي. أخيرا هذه صورة شبه كاملة لعالم اليوم، تستدعي مراجعة كثير من النظريات والعلوم وإعادة النظر حتى في ما يسمى «قداسة العلم»، فأين موقعنا نحن من ذلك وماذا نحن فاعلون.. وهذا حديث آخر له صلة بإذن الله.