13 سبتمبر 2025
تسجيلمررت قبل سنوات قليلة بتجربة التحديق في عيون الموت، لدرجة التجمد والتبلد من الخوف، فقد كنت أسير بسيارتي في شارع رئيسي عندما فوجئت بشاحنة ضخمة آتية من طريق جانبي، وتندفع نحو سيارتي بسرعة عالية، لا أعرف كيف نجوت من الهرس والسحل، فقد كان حجمها كفيلاً بسحق سيارتي وعظامي، لكنني أذكر أن عدة سيارات من حولي ولولت وانعطفت ذات اليمين واليسار، وشاء الله ألا ترتطم أي منها بأخرى. أوقفت سيارتي في منتصف الطريق وجلست بداخلها أرتعد كمن أصيب بإنفلونزا الدجاج والشلل الرعاش في آن، ورغم الذهول كنت متعجباً من أن هناك سيارات أتعس حالا من سيارتي بدليل أنها تحرشت بها، ثم انتبهت إلى أن شرطياً ينظم المرور حول سيارتي التي كانت تقف في منتصف الطريق، فقد أدرك الرجل أنني في حالة لا تسمح لي حتى بالسير على القدمين، وتركني أسد جزءاً من الطريق الرئيسي، وبعد قليل نزلت من السيارة وجلست على الرصيف فقاد الشرطي سيارتي وأوقفها جانباً، ثم أتاني مبتسماً: يا زول سلامتك.. الحمد لله ما صار شيء. عندها فقط تحسست أجزاء جسمي وتأكدت أنه «ما صار شيء»، ورفعت عيني كي أشكر الشرطي فوجدت الشاحنة تقف على بعد خطوات من مكان جلوسي، فتوجهت نحوها والشر والشرر يتطايران من عيني، ولحسن حظي كان سائقها ضخم الجثة، ولو صدم سيارتي بجسمه لهشمها تماماً، وكان هو أيضاً يرتعد.. وقفت محدقاً فيه ثم انضم إلينا الشرطي وشرع في تحرير مخالفة مرورية له. مد سائق الشاحنة أوراقه إلى الشرطي دون أن يقول كلمة، وبعد أن صمت دهراً قال: أنا في واجد متأسف.. أنا في يشتغل عشرين ساعة بدون بريك (فترة راحة).. والله أنا ما يعرف شارع كبير ولا شارع سقير (صغير).. متل مجنون أنا يروح سيدا وما يشوف سيارة مال أنت.. بس الله كريم.. ما في سوي دعم (صدم)، قلت للشرطي: هل تسامحه إذا سامحته أنا؟ قال: بالتأكيد؛ أنا أصدق ما قاله عن السواقة المتواصلة لعشرين ساعة، ثم طبطب على ظهر السائق بما يفيد عدم وجود مخالفة، وقال للسائق: خلاص خان روح.. توكل على الله.. نزل الرجل من السيارة وصافحني معتذراً مجددا ثم أغلق باب السيارة بالمفتاح وأوقف تاكسياً وانطلق به، وقال لي الشرطي إنه سعيد بعدم تسجيل مخالفة على ذلك السائق «فها هو من هول ما جرى يؤكد عجزه عن قيادة شاحنته ويتركها ويستقل سيارة تاكسي!». إذن من كاد أن يتسبب في موتي لم يكن سائق تلك الشاحنة، بل صاحب الشاحنة، أو مدير الشركة/ الجهة التي تملك الشاحنة فهو رجل لا يعرف قلبه الرحمة وإلا لما أرغم ذلك المسكين على أن يبقى خلف عجلة القيادة لنحو يوم كامل حتى فقد الإحساس بالزمان والمكان، والمعروف أن الحرمان من النوم من أقسى أنواع التعذيب الذي يتعرض له السجناء السياسيون، فبعد أن يظل الواحد منهم مستيقظاً بسبب الضجيج والأضواء الباهرة والرش بالمياه المثلجة لنحو ثلاثة أيام يدخل مرحلة الهذيان ويعترف بمسؤوليته عن مقتل جون كينيدي وجيفارا وجمال عبد الناصر وسعاد حسني والمتنبي، فالمحققون يريدون أي اعتراف «يبيض وجوههم» أمام كبار المسؤولين، وعلى كل حال فالحمد لله جاءت سليمة، وسلمنا الله وإياكم من المحققين ومن غوانتنامو التي ليس فيها شيء من الجزء الأخير من اسمها «نامو». (سمعت تفاصيل التعذيب بالحرمان من النوم من الصديق سامي الحاج الذي كان نزيل فندق غوانتنامو لـ8 سنوات، فصرت كلما استيقظت من النوم أدرك أنه من أكبر النعم). وبالمناسبة فإن الأطباء من أكثر المهنيين تعرضا للظلم ففي كل مستشفى فإن نصف الأطباء تقريبا قد يعملون لأربع وعشرين ساعة أو أكثر متصلة، وهم من ينصحوننا بالنوم ما بين ست وثماني ساعات يوميا على الأقل، بارك الله فيكم لأنكم تريدون لنا أن ننعم بشيء أنتم محرومون منه.