13 سبتمبر 2025

تسجيل

عبدا لله بن علي العليان

05 يوليو 2015

حضرت قبل فترة إحدى الندوات التي تناقش قضية التكفير والتطرف، طرح فيها العديد من الباحثين، رأيهم في هذه القضية الشائكة التي وصل فيه هذا التكفير إلى حد التفجير والقتل في المساجد والأسواق ومقرات الجنود لجرد الاختلاف الفكري والمذهبي، والحقيقة أن العديد من الباحثين في هذه الندوة، تجاهلوا الأسباب الحقيقية مجتمعة لهذه الظاهرة، واختزلها في قضايا محدودة وهامشية، لا تسهم في مناقشة هذه الظاهرة المركبة والمتعددة الأسباب والقضايا. وهذا يذكرني بآراء سبق أن طرحها أحد الباحثين في مناسبة سابقة، وهي تتكرر بنفس المفاهيم والرؤى، ولا تناقش الأسباب الحقيقة التي تسهم في إنهائها! ومما قاله هذا الباحث: إن ممارسات الإرهاب ليست إلا تعبيرا عمليا للنزعة نحو التطرف. وليس التطرف بدوره إلا واحدا من بين ثلاث استجابات محتملة إزاء قوى الحداثة التي تجتاح الدول العربية والإسلامية. فعندما يواجه الأفراد الذين يحملون قيما اجتماعية ودينية وثقافية محافظة وتقليدية مظاهر الحداثة التي تتسم بالطابع الغربي بشكل عام. فإنهم يعانون من ضغوط جمة تولد لديهم أزمة هوية. ونتيجة لذلك. عندما تصطدم الحداثة مع القناعات الدينية. يلجأ الأصوليون إلى الاعتقاد أن التاريخ قد انحرف عن مساره الصحيح. يجد هؤلاء أنفسهم عندئذ أمام ثلاثة خيارات تتعلق بالكيفية التي ينبغي أن يتعاملوا بها مع العالم خارج مجتمعاتهم الأصولية الضيقة. يقضي الخيار الأول ببساطة أن يتجنبوا التعامل مع العالم الخارجي الذي لا يشاركهم منطلقاتهم الأصولية والمحافظة والتقليدية. ويقضي الخيار الثاني بمحاولتهم التوفيق بين منطلقاتهم الأصولية والتقليدية من جهة والقوى الاجتماعية والثقافية الحديثة التي تحيط بهم في الواقع المعاش من جهة أخرى. ويتمثل الخيار الثالث في الانخراط في أنشطة عنف صريح من أجل مقاومة الحداثة والضغوط المصاحبة لها والتي يشعرون بأنها تلوث نقاء منطلقاتهم العقائدية الأصولية وقيهم الاجتماعية والثقافية التقليدية.والواقع أنني اختلف مع هذه الرؤية الأحادية التي اختزلت مشكلة التطرف والإرهاب التي تعيشه بعض المجتمعات العربية أو الذي تقوم به بعض الجماعات ضد الغرب وبالتحديد ضد الولايات المتحدة، بأنها نتيجة لضغوط قوى الحداثة التي تجتاح عالمنا العربي والإسلامي. ويتولد عنه ما سماه الكاتب بـ"أزمة هوية" والتي تنتج هذه الممارسات المتطرفة والإرهابية كرد فعل على" الضغط الهائل الذي تتشكله قوى التحديث الآتية من الغرب".صحيح أن الاختراق الثقافي الغربي يستهدف الهوية في المقام الأول. وهذا الاستهداف لم يتوقف منذ البواكير الأولى لدخول قوى الاستعمار الغربي للمنطقة العربية والإسلامية. وجاء هذا الاختراق كمقدمة للاستعمار مع البعثات التبشيرية والمستشرقين والرحالة تمهيدا للاستعمار الثقافي والغربي والفكري. لكن هذا الاختراق المعزز بقوى الحداثة ومقولات التحديث والتمدين للدول المستعمرة لم تجد ذلك النجاح المأمول في اجتثاث الهوية أو صياغة هوية تأسر هذه المجتمعات وتجعلها تقبل بكل ما جاء به أو ما ادعاه الاستعمار من أن هدفه التحديث وتطوير هذه الشعوب والارتقاء بمستواها.. إلخ، وتذكر بعض كتب التاريخ أنه قيل لأحد الشيوخ الجزائريين إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر. فجاء رد هذا الشيخ جافا مقتضبا ودالا. إذ قال: ولما أحضروا كل هذا البارود؟!وبعد ذلك من قال إن الغرب جاء بالتحديث للعالم العربي والإسلامي.. لقد أسهم في إعاقة التحديث والتمدن منذ دخوله كمستعمر وليس العكس، وزرع الكيان الصهيوني ليشكل هذا المجسم الغريب إعاقة دائمة لكل تحرك نحو التقدم أو التطور للأمة العربية. ألم يقم بإعاقة تجربة محمد علي في مصر، كأول تجربة تحديثية في المنطقة العربية؟ بل وأجهض الكثير من التجارب الوحدوية العربية وهي بلا شك ستكون مقدمة طبيعية للتحديث والتطوير في بلداننا بعد رحيله مباشرة مع تطبيق الديمقراطية والقبول بالاختلاف والتعدد. فمقولة إن التطرف والإرهاب ولد كرد فعل على ضغوط الحداثة الآتية من الغرب في اعتقادي اختزال غير دقيق لهذه المشكلة العالمية، وأن ربطها بقضية الحداثة يحتاج إلى مراجعة عميقة لأسباب التطرف والإرهاب في عمومه وعالميته وليس اختزاله ـ كما قلنا ـ في قضية الحداثة فقط باعتبارها شرورا عند المتطرفين والإرهابيين كما قيل. والحقيقة أن الإرهاب والتطرف الذي يعتبر الآن قضية القضايا ومحط أنظار العالم واهتمامه وتوجسه وهواجسه له من الأسباب الكثيرة ما يجعل حصره في مسألة أو قضية واحدة فكرة هلامية وتبسيطية غير صحيحة. فالإرهاب والتطرف يتمايز في منطقاته، وهذا التمايز يجعل هذه الظاهرة ـ الإرهاب والتطرف ـ تختلف من بلد لآخر تبعا لأسباب وعوامل عديدة ومتداخلة في الوقت نفسه. منها العامل السياسي ـوهو الأكثر بروزا ـ إلى جانب العامل الاجتماعي والديني والاقتصادي والثقافي والفكري وهكذا. فظاهرة التكفير والتطرف والغلو، ظاهرة مركبة ومعقدة ومن الأنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة ولا تقف عند عامل واحد فقط ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كله وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط. فالبعض يرجع قضية الإرهاب والتطرف إلى الجهل وقلة العلم والفهم بأمور الدين والدنيا. والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في العديد من المجتمعات العربية. والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية ويراها البعض الآخر مشكلة نفسية واجتماعية وأسرية.. إلخ. صحيح أن الغرب من خلال بعض مؤسسات صناعة القرار في الغرب استغلت بعض الممارسات الخاطئة من بعض المسلمين وحاولت ولا تزال أن تلصقها بدين الإسلام نفسه الخلاصة أن الإرهاب والتطرف قضية أكبر من أن تختزل في قضية لوحدها معزولة عن الأسباب الأخرى، ومن الأنصاف أن تتم دراسة كل ظاهرة بما تستحقه من التعمق والبحث والاستقصاء حتى تكون المعالجة والتقييم شافيا وناجعا من آثارها ومؤثراتها.إن ما جرى من تفجير وقتل المصلين مؤخرا في السعودية والكويت، فهذا التكفير والتطرف والغلو يحتاج إلى إستراتيجية جديدة لمواجهة هذا الفكر الخطير الذي يستبيح دماء المسلمين في الصلاة، والذي بلا شك فكر مضاد، والمواجهة العسكرية لوحدها لا تكفي للقضاء على هذا الذي يستهدف الأمة ويفرقها، ويخدع الكثير من الشباب دون وعي بقيم الإسلام الصحيحة، وهذه مهمة الدول والعلماء ووسائل الإعلام.