30 أكتوبر 2025
تسجيلبدأ العد التنازلي، دخلنا في اليوم العشرين، بدأ رمضان يتفلت من بين جوارحنا، لسنا في صدد الحزن والبكاء على الأطلال، والركون إلى الدعة والأسى، ليس هذا حينه، فنحن على العكس تمامًا نبلغك أن المنافسة اشتدت وأن السباق اقترب من نهايته، بالطبع ليست النهاية الأخيرة، ولكنها النهاية الأخيرة في أعمال ذلك الشهر الذي تتبارك فيه الأعمال فيتضاعف الأجر فيها، وإذا كانت النهاية تقترب بهذا الشكل فلا مفرَّ من أن يناسبها عمل مكثف مساوٍ لهذا الاقتراب، لتكون العلاقة عكسية كلما اقترب الانتهاء اشتد العمل، فهذا ديننا، الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كان إذا اقترب الثلث الأخير من الشهر شدَّ مئزره، وهذا كناية لطيفة عن عدم قرب الرسول من نسائه في هذا الوقت بمعنى الحياة الزوجية الكاملة، فالرسول يتفرغ تفرغًا تامًّا للعبادة وهي أيام بسيطة عشرة أيام فقط، تعد على أصابع اليدين، فلا مانع من أن نترك الدنيا في تلك الأيام تمامًا، وحبذا لو حاولنا بقدر المستطاع أن نقلل فيها ساعات ارتباطنا بالدنيا من حيث العمل والتفكير في شؤون الدنيا والأولاد والأموال، فقط عشرة أيام نعمل على تنقيتها من شوائب الدنيا وبقاياها، فالصوم هو العبادة الوحيدة التي تخص الله فقط، وأصله الإخلاص، لذلك فالصيام في نفسه مضاعَفٌ أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال، ولهذا كان صيام شهر رمضان مضاعفًا على سائر الصيام لشرف زمانه، فكما أن أفضل الأماكن شرفا ومن ثم أجرًا مكة ثم المدينة المنورة ثم بيت المقدس، كان رمضان أشرف الشهور الهجرية، وقد يضاعَف الثواب بأسباب أخرى منها مكانة المتعبد عند الله عز وجل وقربه منه وكثرة تقواه، كما يضاعَف أجر هذه الأمة على أجور سابقيهم من الأمم فقد أعطوا كفلين من الأجر. فأنت الآن في موضع تخيُّر لأفضل الأعمال مقربة إلى الله، حتى تستطيع الفوز في ذلك المضمار الشريف، والأعمال كثيرة: بر والدين، صلة رحم، إغاثة ملهوف، إدخال سرور على أخ مسلم، قراءة القرآن، صلاة تراويح، صلاة تهجد، الجلوس في المسجد من الفجر حتى شروق الشمس متذكرًا الله عز وجل، تسديد دين... وغيرها الكثير. وقد أُمِرنا بالتسابق في فعل الخيرات، فقد قال الله في كتابه العزيز: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، ليس سباقا عاديًا في فعل الخيرات، بل فرار إلى الله، فهو هروب من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته، ألا تحب أن تكون في معية الله ومحاطًا بفضله كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». رواه البخاري. فكن فطنا ذكيَّا واستغل هذه الأيام المتبقية من شهر رمضان وامتثل لقول الشافعي: إنَّ للَّــهِ عِــبَــــادًا فُطَـنَـــا**تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا نـظــروا فيها فلما علمـوا**أنهـا ليسـت لحـيٍّ وطـنــا جعَلُـوهَــا لُجَّــةً وَاتَّخَــذوا**صالحَ الأعمالِ فيها سفنا بل وأنصت جيدًا إلى ذلك الحديث -الذي إن كنت قد سمعته لأول مرة فهذا من فضل الله علينا– حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَنَافُسَ بَيْنَكُمْ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ بِاللَّيْلَ وَالنَّهَارِ، فَيَتَتَبَّعُ مَا فِيهِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا، فَأَقُومُ بِهِ مِثْلَ مَا يَقُومُ فُلَانٌ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا يُنْفِقُ وَيَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ رَجُلٌ مِثْلَ ذَلِكَ». صحيح الترغيب والترهيب. فهنا تكمن المنافسة الحقيقية في القرب من الله، والحرص على طاعته، هنا فقط يمكن أن تحسد الآخرين وهو حسد محمود، حسد يسعى إلى حب الله، فللتنافس مع هؤلاء الذين يُصلُّون في الصف الأول، لماذا لا أكون منهم، بل أكون من أوائل مَن يقفون أمام الله عز وجل، لتكن منتظرًا للصلاة تلو الصلاة، ولماذا لا أكون ممن يبادر بإخراج الصدقات بل أكون ممن يسعى إلى معرفة من هو واقع في شدة، فأزيل عنه هذه الشدة، وأسعى إلى تجميع المال المناسب لسد هذه الحاجة، فلا أكون مجرد شخص مشارك في فعل الخير، بل أكون منشئًا لهذا الفعل وهذا ثوابه أعظم وأجل، فثواب كل من أسهموا في فك هذه الكربة يُكتب في صحيفتك أولًا، كن شخصًا منافسًا بقوة. اجعل لسان حالك دائما فعل الصحابي الجليل عكاشة: فحينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ» وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» متفق عليه. كن مبادرًا كن صانعًا، كفى تقليدًا واسمُ بهدفك عن باقي المتنافسين، اجعل لنفسك مضمارًا خاصًّا بك، تجري فيه منفردًا. أو اصنع منافسة واجلب إليها المتنافسين، أخرج الأمر من مجرد شيء يخصك وحدك إلى شيء يخص جميع الناس، وهذا أصعب بمراحل، فأنت حينئذٍ تتحدى صفاتهم من شح أو تقاعس، حيث تدفعهم للتنافس، وهذا يحقق لك أمرين: أنك تُعلِي مرتبتك في قائمة المتنافسين، والأمر الثاني أنك تجذب بعض المتنافسين معك في ذلك السباق، فيكون لك أجران لا أجر واحد.