19 سبتمبر 2025

تسجيل

هل أتاك حديث العزل ؟

05 يونيو 2013

من المفردات العربية المتداولة أثناء الهزات التي عاشها العالم العربي عبارة (العزل) وهي في لسان العرب تشير إلى إبعاد شيء عن شيء والتفريق بين أمر وأمر وقد وردت في الأدب العربي بهذا المعنى مجازا وواقعا أما استعمال هذا المصطلح القديم الجديد في هذه المرحلة فدل أول ما دل على عزل حكام عرب أطالوا البقاء في الحكم وهم رؤساء جمهوريات يفترض أن يتداول الناس فيها على السلطة بالانتخاب وليسوا ملوكا استقرت شرعيتهم على حقائق التاريخ ووفاق الشعوب فكانت بصراحة شؤون ملكهم أفضل مما أعلن من أنظمة جمهورية ليس لها من الجمهورية بالمعنى الأفلاطوني سوى الاسم وأناخت على صدور الناس بالقهر والتحيل على الدساتير بتوريث الأبناء والأصهار وتحكيم العصابات في المؤسسات. هكذا عرفنا العزل أول ما قامت الثورات ثم تحولنا إلى قوانين سنها الحكام الجدد تنادي بعزل ما سموه الفلول في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وتوسعت هذه القوانين أو مشاريعها لتشمل بالعزل وزراء ومديرون وموظفين سامين خدموا الدولة كدولة ولم يسرقوا ولم يجرموا فكان جزاؤهم الظالم كنوع من العقاب الجماعي الذي أخل بقاعدة قرآنية كريمة وهي (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و (كل نفس بما كسبت رهينة) فزج بعدد من الأبرياء في السجون دون محاكمات وبلا شك حوسب الظالمون أيضا على ما اقترفوه لكن توسيع رقعة العزل باستمرار على هوى الأحقاد وتصريف الانتقام أدى إلى عديد المظالم واستسلمت السلطة الجديدة إلى ما يسمى بنبض الشارع وإلى الكتائب المسلحة المحيطة بمقرات الوزارات كما في ليبيا أو إلى إرادة ميليشيات فوضوية تتصرف حسب إشاعات الفيسبوك فكادت بعض دولنا تنهار بسبب انعدام الاستمرار ونقص الكفاءة وتفشي التشفي والرمي بمجرد الظن وكأن الأنموذج العراقي الكارثي لم ينفع للتدبر والاعتبار حين دمر الأمريكان وأعوانهم الدولة العراقية عوض تحطيم منظومة القهر البعثي فلم يبق للعراق لا جيش قويا منضبطا ولا إدارة ناجعة فعالة ولا جامعات علمية ولا متاحف ولا مشافي ولا نفطا يضخ الخير على الناس. فكان العزل في العراق عزلة للعراق وإلى يوم الناس هذا لم تقم للدولة قائمة حيث انقسم العراق إلى طوائف وأعراق ونحل وملل وأقاليم وهاجر من هذا البلد الأمين أربعة ملايين عراقي بينما تنتج أرضهم جميع الخيرات من النفط إلى الزراعة إلى الصناعة إلى أعلى نسبة في إبداع الفكر وطباعة الكتب. في ليبيا خضعت حكومة هشة لتهديد السلاح المرفوع على الشاحنات فصادق مجلسهم المنتخب على قانون العزل وطال هذا القانون حتى السيد محمد المقريف رئيس نفس المجلس فاستقال الرجل وهو دامع العينين أمام تصفيق حار وقوفا من زملائه الذين يكنون له فائق التقدير.. و لم ندرك أسرار هذه الأعمال التي لم نعرف بالضبط من يحركها لكننا على يقين من أن حرمان الدولة المستقبلية الليبية من كفاءات مناضلة خدمت الدولة لا القذافي وحافظت على مصالح ليبيا لا مصالح سيف الإسلام هو حرمان جائر سيفتح الباب أمام المتهورين اللابسين لبوس الثورة وربما أتى هذا القانون بقذافي ثان عديم الخبرة ليكرر نفس مصائب العقيد بإلغاء الدولة وتعويض المؤسسات بلجان أخرى شعبية أو ثورية تعيد ذات المهزلة لا قدر الله ووقى الله شعب ليبيا من شرور الارتجال واللغو. وفي تونس ومصر دار جدل واسع حول نفس التوجه فتقدمت بعض أطياف السلطة الجديدة بقانون سمي في تونس قانون التحصين السياسي للثورة وهو سير في طريق مجهولة نحو مظلمة تسلط على البعض حتى لو أصابت بالعدل بعض من أساؤوا للشعب وناصروا الاستبداد وسكتوا عن الفساد. فجميع من كانوا يسيرون خلايا الحزب الحاكم المنحل ليسوا جميعا لصوصا أو طغاة بل كان بعضهم يعمل لتوفير مدرسة أو مستشفى أو إعالة معوزين أو علاج مرضى أو رعاية مسنين ومعاقين. هؤلاء عرفت بعضهم وهم يحملون صفة حزبية لا يهمهم منها سوى ما يعتقدونه أداء خدمة لمواطنيهم في الأرياف والمناطق البعيدة عن مراكز المدن. وينادي العقلاء من التونسيين بإحالة كل حالة مسترابة على القضاء المستقل العادل وتلك رسالته وغايته حتى ينصف الناس من شر الناس ويجازي كل مسيء بإساءته دون تعريض أبرياء لعقاب جماعي طالما كابده الحكام الحاليون في عهود سابقة وأدانوه معلنين أن لا ظلم بعد اليوم. أما في مصر فقد انقسمت النخبة السياسية إلى شق يريد الانتقام ممن اعتقد أنهم ظلموه وشق يحبذ طي الصفحة بألامها وتدشين عهد جديد لا يشوبه حقد ولا يشوهه تجاوز. وما يزال الجدل قائما بين الفريقين وهو من صنف الجدل المضر بمصالح مصرلأنه لا يطمئن فريقا من رجال الأعمال الذين بإمكانهم النهضة باقتصاد مصر لكنهم ظلوا حذرين إزاء نوايا التشفي وفتح أبواب الظلم والابتزاز. ولا يختلف الأمر في تونس وليبيا واليمن عن الحالة المصرية حيث انتشر مناخ من الخوف من القوانين (العازلة) التي يبدو أنها تهب على بلادنا كرياح محفوفة بالمخاطر رغم نوايا أصحابها الباحثين عن العدالة الانتقالية كسائر التحولات الكبرى وما يعقبها من هزات. والرأي عندي أن الدول الجديدة لا تؤسس إلا على نواة الدول السابقة أي على ما ظل منها محايدا وعادلا ومهنيا.