29 أكتوبر 2025
تسجيلالصوم في حقيقته سمو للروح وتزكية للنفس وإعدادٌ للقلوب لتقوى الله ومراقبته في السر والعلن وتربيتها على الخشية من الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فالصوم يجعل قلوبنا طاهرة رقيقة تستشعر المراقبة فتظل على حذر من ربها، فتحب الطاعة وتسير في دروبها، وتكره المعصية وتبتعد عن طرقها، والله تعالى خلقنا ويعلم ما يُصلحنا ويقوِّمنا، فكانت فريضة الصوم أفضل اختبار لنا، لتوضِّح مدى صبرنا على شهواتنا ومدى مراقبتنا إياه سبحانه ومدى الخشية من عقاب الله، فالصوم يهتم بإصلاح الداخل، إصلاح القلوب وغرس الإيمان فيها؛ فالإسلام لا يُكرهنا على الطاعات، بل يحبِّب إلينا الطاعة ويعدنا بالمثوبة من الله ومحبته تعالى للطائعين. ومقام الخشية من الله ومراقبته يكمن في قلوب الذين يعلمون أمور دينهم ويعظمون شعائر ربهم.. قال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ◌ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (فاطر: 28). وقال ابن القيم: وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -: «إني لأعلمُكم بالله وأشدُّكم له خشية». والصوم المراد منه الوصول بالعبد إلى مقام التقوى والخشية والمراقبة، فالإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفه تعذيب النفس، وإنما جُعِل المنع عن الشهوات لترقيق القلوب وانكسارها وتعليمها خشية الله ومراقبته؛ لذلك قال النبي - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاريُّ). فحقيقة الصيام هي امتناعك عن كل ما يُغضب الله والصيام الشامل لكل الجوارح، كما قال جابر - رضي الله عنه -: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء». ولا شك أن تحقيق هذا المعنى الشامل للصوم لا يأتي إلا من قلب مملوء بالتقوى والخشية لله تعالى في كل وقت وحين، فهذا الصائم الحق الذي فهم مراد الله وطبَّقه تطبيقًا عمليًّا يستمتع بروحانيَّة الصيام ومعانيه الإيمانيَّة العميقة، وما عدا ذلك من الصائمين دون إدراك أو تدبُّر للمعاني الربانيَّة المقصودة لم يصلوا بعدُ إلى فهم روحانيَّة الصيام ويتحقق فيهم قول الرسول - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -: «رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (أخرجه النسائيُّ). فنرى بعض الأشخاص تضيق صدورهم في الصيام ويسوء خُلقهم ولا يستطيعون التحكُّم في أعصابهم ولا ضبط ألسنتهم عن المحرمات، وهذا كله ينقص أجر الصوم الذي جعل الله جزاءه مبهمًا حتى تظل القلوب على وجل، فقد قال رسول الله - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم -: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقُل: إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرِح بصومه» (صحيح البخاريِّ). فاللهم لا تحرمنا تحقيق كل هذه المعاني الربانيَّة العظيمة واجعلنا من أهلها يا رب العالمين وتقبل اللهم صيامنا وقيامنا وأعتق اللهم رقابنا من النار في هذا الشهر الكريم.. اللهم آمين.