18 سبتمبر 2025
تسجيلمن المنجزات القطرية التي تثلج الصدر استمرار الحياة الثقافية طبعا بحذر وتؤدة؛ حتى لا يغتنم الفيروس تجمعات الناس ليفتك بالصحة، ولكن نوادي (كتارا) المختلفة والمكتبة الوطنية وأقسام الجامعات تزخر بالمعارض والندوات وتزدهر فيها وبشبابها نشاطات تؤكد أن الثقافة في قطر ليست ذات مواسم بل هي مجهود دؤوب متواصل إلى جانب انتظار الفائزين بأكبر جائزة عالمية للترجمة (جائزة الشيخ حمد) كما أن المدارس تعج بالعمل الثقافي. وأثرت في هذا المقال أن أخصصه لكتاب قطري قيم كأنه مر دون أن يلقى ما هو به جدير من العناية والنقد وهو كتاب (الاغتراب في شعر العصر الأموي) فحين أزفت ساعة الرحيل لأسرة الأمويين وجاءت ساعة الأسرة العباسية كانت لحظة عجيبة من لحظات التاريخ العربي الإسلامي بدأت فيها رحلة طويلة لزعماء الأمويين نحو ما سمته د. فاطمة السويدي الأكاديمية القطرية صحراء الاغتراب وحفلت كتب عيون التراث بقصص ومغامرات بعضهم بعد أن دارت الأيام إلى أن جاء من أحيا أمجاد الأسرة الأموية في الأندلس وهو صقر قريش الشهير الأمير عبد الرحمن الداخل الأموي الذي فر بجلده من ملاحقة العباسيين وأعاد وأنشاء دولة بني أمية في الأندلس. أما الاغتراب في عصرنا الحديث فقد شمل عائلات عديدة في العالم كانت على سدة الحكم وجاءت بعدها عائلات أخرى تحكم بلدانها وعاش أهلها مأساة الاغتراب كما عاشها الأمويون وبعدهم العباسيون وتذكروا أسرة الملك فيصل الهاشمي حفيد الشريف حسين في العراق حين أطاح بها بعض الضباط في يوليو58 بقيادة عبد الكريم قاسم الذي قتلوه وسحلوه بعد 3 سنوات بنفس القسوة التي قتل بها الأسرة الهاشمية وقبلها أسرة الملك فاروق في مصر حين قام انقلاب عسكري في 23 يوليو 52، فسافر الملك إلى ايطاليا على متن يخته (المحروسة) واسر عديدة تغيرت نعمتها إلى نقمة مثل الأسرة الحسينية التونسية التي حكمت تونس عندما كانت ايالة عثمانية لمدة 270 عاما وأطاح بها الزعيم بورقيبة الذي أسس جمهورية تحولت مع الزمن إلى (جملكية) أي إلى نظام حكم هجين تأبد فيه رئيس الجمهورية مدى الحياة إلى أن أطاح به الرئيس زين العابدين بن علي عام 87، وفي أندونيسيا حين جاء الجنرال سوهارتو في انقلاب مارس 1966 على جثث نصف مليون ضحية: من اسلاميين وشيوعيين ومعارضين ثم رحل في موجة عاتية من الغضب الشعبي على جثث خمسمائة شخص. هذا الذي جاء إلى السلطة بعد الزعيم التاريخي أحمد سوكارنو احد قادة مؤتمر باندونج ومؤسس حركة عدم الانحياز وباني نهضة اندونيسيا. عجيب كيف لم يقرأ هؤلاء الغافلون عن حركة التاريخ كتب التاريخ ومن بينها كتاب العبر مقدمة ابن خلدون ليعرفوا (ميكانيزم) انتقال الشرعية بسهولة ويسر. هذا ما يمكن أن يجري اذا ما ألغيت كل المؤسسات الدستورية الفاعلة وعوضتها الامزجة واذا غاب رجال العلم والصلاح والاستشارة وعوضهم البهلوانات والمنافقون والمصفقون.. نعود إلى كتاب الاغتراب للدكتورة الفاضلة فاطمة السويدي فإذا كنت تشعر بغربة ما أو بأنك غريب مؤقتا خارج وطنك أو داخله أو إذا أحسست بنداء من الاعماق يعزلك عن الناس ويجتث جذورك من ترابك ويزرعك بعيدا فافتح هذا الكتاب الصادر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة. والحقيقة إن عنوان الكتاب متواضع ولا ينصفه غاية الانصاف فالباحثة القطرية لم تكتف بحقبة الأمويين بل خصصت حوالي مائة صفحة لتحليل ظاهرة الاغتراب بمنظورها الفلسفي والنفسي وابعادها المكانية والزمانية والسياسية والعاطفية والاجتماعية مع اتخاذ ادب أهل الاغتراب نماذج للتدليل على تطبيق نظرياتها. وتنطلق د. فاطمة من معنى الاغتراب لدى القبائل العربية المهاجرة إلى معنى الاغتراب لدى الشعراء فتنقلك من العصر الأموي إلى عصرنا الحاضر لانك تقرأ قصائد رائعة باقية مع الزمن تعبر عن اغتراب الانسان في كل العصور. ومن أطرف ما يشد الانتباه ويدعو للتقدير اتخاذ نماذج من الاغتراب الجماعي للتغلغل في أوضاع السياسة والاقتصاد والاجتماع مثل نماذج الصعاليك والخوارج والموالي والعذريين، وقد وفقت د. فاطمة السويدي إلى تبيان الثنائية الدرامية في أدب المغتربين بين الخوف والجسارة والحياة والموت والروح والجسد والتمرد والاستسلام والماضي والحاضر إلى جانب ان الكتاب ديوان شعري مفتوح تقرأ فيه روائع الشعر العربي أمثال تلك الأمنية التي تمناها مجنون ليلى حيث يقول: ألا ليتنا كنا غزالين نرتعي رياضاً من الحوذان في بلد قفر ألا ليتنا كنا حمامي مغارة نطير ونأوي بالعشي إلى وكر فالتحية إلى المؤلفة التي كان لها فضل التأمل الرصين في عيون التراث بعيون عصرنا وفضل كشف بعض اسرار الاغتراب الذي ينجب العبقرية. كاتب تونسي [email protected]