14 سبتمبر 2025
تسجيلشهدت دول منطقة الخليج في النصف الثاني من العقد الماضي موجات متواصلة من ارتفاع الأسعار، بحيث وصلت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة والذي بلغ 15% في بعض البلدان، قابلها إجراءات للحد من هذه الظاهرة، سواء من خلال زيادات الأجور أو من خلال مراقبة الأسعار والتي لم تحرز الكثير من التقدم بسبب عدم تقنينها. ومع أن ظاهرة الغلاء، ظاهرة عالمية، إلا أنها ارتبطت في دول الخليج بتضاعف أسعار النفط وبوجود احتكار لتجارة السلع والخدمات من خلال نظام الوكالات التجارية والذي بلغ عددها 120 ألف وكالة في دول المجلس والذي لم تتغير نصوصه الأساسية منذ أكثر من خمسين عاما، وذلك رغم انضمام معظم بلدان المنطقة لمنظمة التجارة العالمية التي تمنع الاحتكار بكافة أشكاله، لما له من ضرر على التجارة وعلى المستهلكين بشكل عام. وفي الأسبوع الماضي اتخذ مجلس الوزراء قرارا مهما للغاية يتعلق بتحرير تجارة السلع الغذائية الرئيسية، حيث يشكل مثل هذا القرار منعطفا ستكون له آثار إيجابية عديدة ليس على مستويات الأسعار، وإنما على هيكلية التجارة الداخلية والتي ستتخذ منحى تنافسيا ستمنح أسواق الدولة أفضليات في تجارة السلع المحررة. ومع أن القرار واجه بعض الحذر من قبل أصحاب وكالات هذه السلع، إلا أن هذه المحاذير لا يوجد لها ما يبررها، فعمان والبحرين سبق لهما وأن قاما بتحرير التجارة، حيث كان لذلك نتائج إيجابية على مستوى الأسعار وعلى مستوى التجارة الداخلية، فمستويات الأسعار أصبحت أكثر قبولا، في الوقت الذي لم يتضرر الوكيل الأصلي والذي أبدى تخوفا مماثلا في بداية التطبيق، بل إنه عمد إلى تحسين مستويات الخدمة لديه واكتسب خبرات تسويقية جديدة ساهمت في زيادة مبيعاته، مما شجعه على القبول بالأسعار الجديدة، خصوصا وأن أرباحه تزايدت بفضل حجم المبيعات المرتفع. في المقابل دخل السوقين العماني والبحريني موزعون جدد ووجدوا لأنفسهم مكانا تنافسيا، ومع أن حصتهم في السوق بقيت متواضعة، إذ ما قورنت بحصة الأسد التي بقيت للوكيل الأصلي والذي بذل جهودا تطويرية للمحافظة على حصته، إلا أن الموزعين الجدد شكلوا عامل توازن لجودة المنتجات وللأسعار في السوقين الخليجيين. ويشكل نظام الموزعين المعمول به في معظم بلدان العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بديلا نموذجيا لنظام الوكيل، ففي النظام الأول المعمول يتيح القانون لأكثر من موزع يقوم باستيراد نفس السلعة ضمن المواصفات المعتمدة ويحاول تقديم أفضل الخدمات والأسعار، حيث يكون البقاء للأفضل وتزدهر الأسواق وترتفع قدراتها التنافسية، بما في ذلك تجارة إعادة التصدير والتي لن تقتصر على جهة واحدة. ومع أنه لا يمكن أن تتم عملية تعميم تحرير تجارة السلع دفعة واحدة، إلا أن التدرج الذي اتبعه مجلس الوزراء يفتح المجال أمام تحرير تجارة سلع أخرى أساسية للمستهلك، وسيدفع باتجاه الأخذ بنظام الموزع الذي يشكل أهمية كبيرة للاقتصاديات الحديثة. من جانب آخر، فإن العديد من الأنظمة الاقتصادية والتجارية المعمول بها سابقا في بلدان المنطقة لم تعد ملائمة ولا تتناسب مع التغيرات الاقتصادية التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، وبالأخص النمو اللافت للاقتصاد المحلي والاقتصاديات الخليجية، بما في ذلك إقامة السوق الخليجية المشتركة. لذلك، فإن الأنظمة التجارية السابقة أصبحت عائقا ليس أمام تقديم الأفضل والأقل سعرا فحسب، وإنما أمام الاندماج الاقتصادي الخليجي أيضا، فمجلس الشوري القطري على سبيل المثال يسعى للمرة الثالثة على التوالي إلى رفض السماح للخليجيين بامتلاك الوكالات التجارية، حيث توجد موانع مماثلة في بقية دول المجلس، مما يعني أن نظام الوكالات أصبح قضية حساسة لما يوفره من امتيازات يمكن تلافيها من خلال توفير فرص المنافسة المتساوية. والحال، فإن قرار مجلس الوزراء بتحرير تجارة المواد الغذائية ستكون له تداعيات إيجابية ستؤدي إلى تخفيض الأسعار ومعدلات التضخم، خصوصا إذا ما تجاوب أصحاب وكالات تجارة السلع الغذائية وتجنبوا رفع الأسعار بصورة مصطنعة لا تتناسب وارتفاع الأسعار عالميا، كما أنه يمكن لمخازن الأغذية، كالجمعيات التعاونية ومراكز التسوق الكبيرة التجاوب مع هذا القرار والمباشرة في الاستيراد المباشر في حالة ارتفاع الأسعار عن معدلاتها الطبيعية، مما سيصب في نهاية المطاف في صالح الاقتصاد المحلي وفي صالح المستهلكين الذين سيحصلون على سلع وخدمات أفضل جودة وبأسعار مناسبة.