13 سبتمبر 2025
تسجيلمن الدوافع والأهداف العلمية عند المستشرقين أنهم اعتنوا بالمخطوطات عناية فائقة، حيث جمعوا المخطوطات العربية من كل مكان تتواجد فيه هذه المخطوطات، وبوسائل متعددة، والعمل على حفظها وصيانتها من التلف والعناية لها عناية فائقة، وفهرستها فهرسة نافعة تصف المخطوط وصفاً دقيقاً، وبذلك وضعت تحت تصرف الباحثين الراغبين في مقر وجودها أو طلب تصويرها بلا روتين أو إجراءات معقدة. وقد قام مثلاً "الوارد" Ahlwrdt بوضع فهرس للمخطوطات العربية في مكتبة "برلين" في عشرة مجلدات بلغ فيه الغاية فناً ودقة وشمولاً، وصدر هذا الفهرس في نهاية القرن الماضي ـ التاسع عشر ـ واشتمل على فهرس لنحو عشرة آلاف مخطوط. وقد قام المستشرقون في كافة الجامعات والمكتبات الأوروبية بفهرسة المخطوطات العربية فهرسة دقيقة. وتقدر المخطوطات العربية الإسلامية في مكتبات أوروبا بعشرات الآلاف، بل قد يصل عددها إلى مئات الآلاف. فالمستشرقون بحق لديهم صبر عجيب للبحث والتنقيب والدراسة ويتفانون في أعمالهم بشكل جدي ومتميز للمعرفة والاطلاع، ويستمعون لكل ملاحظة أو نقد يوجه إليهم في ما يدرسونه أو يبحثون عنه، وساعدتهم على ذلك إحاطتهم باللغات القديمة والحديثة. وقد أشاد بذلك العديد من العلماء العرب بهذا التفاني للعلم والرغبة في البحث الشاق بهدف المعرفة الشاملة ومن هؤلاء الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي أبدى إعجابه بصبرهم وحسن أسلوبهم وسعة اطلاعهم. ويرى البعض أن العقلانية والحياد الذي انطبع بمسيرة الاستشراق الغربي جاء مع عصر التحول الصناعي والتنوير الفكري بعد إنهاء سيطرة الكنيسة الغربية وتجريدها من سلطتها الزمنية وتراجع فكرة التبشير والتنصير اللذين سادا فترة مع حركة الاستشراق إلى العالم العربي والإسلامي.لكن الإشكالية أن العقلية في هذه الفترة انتكست إلى مركزية أوروبية وفكرة فوقية، وظهرت فكرة أن الإنسان الأوروبي أكثر تحضراً وعقلانية، وأرقى سلالة من الشعوب الشرقية، وهذا يعني أن هذه الشعوب أكثر تخلفاً وهمجية، لكن الكثير منهم "أصبح أكثر تسامحاً وعقلانية، غير أن الصورة العامة، بقيت أسيرة عقلانية عصر التنوير وأيديولوجية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أصبح الدين الإسلامي ديناً عقلياً بعيداً عن الديماغوجية، بالنسبة إلى الدين المسيحي، الأكثر تعارضاً مع العقل، فالدين الإسلامي، يوفق بين الدعوة إلى حياة أخلاقية والاحترام المعقول لمطالب الجسد والحواس والحياة الاجتماعية، إنه دين أقرب إلى دين الإله المجرد الذي يدين به معظم مفكري التنوير. كما ظهرت سيرة الرسول محمد وحياته أكثر وضوحاً وتسامحاً وواقعية، ولم تعد الصورة مشوهة، كما كانت خلال العصور الوسطى وبعدها. في هذه الفترة بالذات بدأت تتحول الصورة إلى الشرق وإلى العرب والمسلمين بشكل أخص، وبرزت ظاهرة الاتجاه إلى الاستشراق الرومانسي ودراسة ما هو غريب وعجيب [exotisch] في هذا الشرق الغامض بالنسبة لهم.ويرجع البعض إلى أن الثورة الصناعية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في الغرب دفعت البعض إلى الهرب من هذا الواقع الصارم والمادي والنفعي الخالص، والاتجاه إلى حضن الطبيعة والفطرة التي ما زال الشرق يتلحف بها. وتولدت عن ذلك التوجه الأنثولوجيا الرومانسية، مثلما تولدت الرومانسية الإنجليزية التي توجهت إلى الشعر البدائي الجاهلي، ويقال إن الشاعر الألماني جوته تأثر بكتابات بعض المستشرقين المنصفين للإسلام، ومن هؤلاء المستشرق الهولندي "هادريان ريلاند" من خلال كتابه (الديانة المحمدية)، حيث عرض طرحاً منصفاً للإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب. ففي هذه الفترة القرن الثامن عشر كان التحول كما تمت الإشارة آنفاً في مواقف المستشرقين تجاه الإسلام والشرق أبان الثورة الصناعية وحركة التنوير الغربية التي ابتعدت كثيراً عن الأفكار والآراء الكنسية وأحكامها المسبقة عن الشرق عموماً والعرب والإسلام على وجه الخصوص، وكان دافعهم في هذه الفترة في الأغلب الأعم المعرفة عن الشرق وسحره وغموضه في نظرهم ومهد الديانات والحضارات.. إلخ. وقد استفاد "جوته" في قراءاته هذه في التعرف على معارف الشرق من خلال قراءة ترجمة القرآن الكريم. في مرحلة مبكرة كذلك موسوعة "بارتيلمي دربيلو" الشهيرة "المكتبة الشرقية" (بالإنجليزي) لغزارة معلوماتها عن الشرق والعرب والإسلام، على الرغم أنها لم تكن منصفة حسب تقدير بعض الباحثين.. وإذا أردنا تتبع الدوافع والأهداف التي اضطلع بها المستشرقون لدراسة الشرق والعرب والإسلام، لاحتاجت إلى مباحث طويلة ومتعمقة لمناقشة هذا الجانب. لكننا في بحثنا سنتتبع جهود المستشرقين العلمية في كشف التاريخ العربي كما أشرنا في فصـل آخر. ورغم أهمية نقد الاستشراق ونقده "المعكوس" ودفاعه الناقد على النقد الموجه إليه، فإنه من العدل ألا نجعل كل الاستشراق في سلة واحدة ، لمجرد الأخطاء الصادرة عنه في بعض جوانب دراساته وأبحاثه أو نتيجة لأطماع الاستعمار وأهدافه المشبوهة في هذه الدراسات والأبحاث. "إلا إذا خلطنا بين النقد العلمي وبين النقد السياسي أو النقد الثقافوي البحت". وبالمقابل فإذا كان الحفر السوسيولوجي في طرق مواجهة المعرفة والسياسة والثقافة الشرقية (العربية هنا) للاستشراق والعلوم الاجتماعية مهماً وملحاً، فإن مزيد الحفر في النظام المعرفي للاستشراق حفراً سيوسيولوجياً يبدو لا يقل أهمية وإلحاحاً. فالنقد الموجه للاستشراق التقليدي، وبخاصة من خلال اتهامه بالمركزية، واحتكار العقلانية والإنسانية، لم يتدعم في أغلب الأحيان بتحليل علمي يرتكز على أسس موضوعية". والإشكالية التي وقع فيها الاستشراق – التقليدي منه والحديث - أن آراءهم في الإسلام والعرب ـ في أغلبها ـ كانت نظرة قاسية وغير عادلة ومنطلقة من زاوية أيديولوجية ارتجاعية، وكادت أن تغمط مكانة الاستشراق في جوانب كثيرة، وهي مكانة تستحق التقدير والإشادة، لما طرحته من آراء منصفة وجادة وبعيدة عن الأحكام المسبقة التي كانت عند بعض المستشرقين تجاه الإسلام والعرب، وهذه الرؤية ـ كما قال هشام جعيط ـ اتسمت برؤية سيكولوجية جامدة للإسلام وبنزعة مركزية للأنا والآخر تكاد تنسف فكر وحضارة، بل وعقلية الآخر المختلف. وهذه قللت كثيراً من وضعية الاستشراق وربما مكانته، إذ صور أنه ملأ الفراغ الذي وجده في فترة من الفترات وهي فترة ضعف العرب والمسلمين وتراجعهم العلمي والثقافي وكذلك فترة الاستعمار ونتائجه السلبية. وهذه الرؤية الجامدة أيضاً في بعض منطلقاتها ضخمت "الأنا" بصورة لا عقلانية، وتخالف ما يطرحونه للآخر المختلف بأنه "لا عقلاني" ناهيك عن قدراته وملكاته العقلية والفكرية وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً، والعمل على تأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محورها "الأنا" الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً.وهذا التهميش والإقصاء والمركزية "الأنا" وتجريد الآخر المختلف من كل صفات النبوغ والتحضر والعقلانية، تخالف وتناقض جهود شريحة مهمة من المستشرقين الذين تحدثوا عن حضارة عربية إسلامية أصيلة ومتميزة، وكشفوا عن تاريخ وآثار تنم عن تصور غير مسبوق لحضارات عريقة في مصر والشام والعراق والجزيرة العربية، وهذا ما جعل الكثير من الباحثين الغربيين ينتقد هذا التحيز والتحامل والتعصب. وهذا ما طرحه "تيري هانتش" في كتابه (الشرق المتخيل) الذي اعتبر أن التاريخ الغربي شوه بالفعل حقائق من خلال الاستشراق، وسكت بشكل نسقي عن كل العطاءات العلمية والحضارية العربية وغيرها من المنجزات العلمية والفكرية الشامخة. ويرجع هانتش هذه الأسباب ـ وهي واهية ـ أن الغرب منفصم "بين الإعجاب بالعلم العربي والعنصرية المناهضة للإسلام" فهل يمكن أن يكون هذا التبرير مسلكا للتحامل والتزييف للحقائق التاريخية وكأبحاث ودراسات للحضارة الإسلامية؟ ولذلك وجدنا بعض الباحثين العرب من يعتقد أن الاستشراق شب وترعرع في حضن النظام الفكري الغربي الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر، وأن المستشرق الذي ينكب على دراسة الشرق، سكانه وأحواله وحضارته لا يمكن أن يبقى بمعزل عن التأثر بشكل أو بآخر بهذا الفكر، حتى المستشرق الذي لم يعمل من خلال المؤسسات الاستعمارية، لا بد أن يتأثر بهذا النظام الفكري والمركزية الغربية التي ترى تفوقها وأحقيتها بالهيمنة وأنها مركز العالم وحضارته، وهذا يستتبع في رأيهم عدم الإنصاف والتحيز والعنصرية في بعض الأحيان.لكننا نرى أن التعميم قد ينتج عنه خطأ في التقدير والتقييم، ولذلك فإنه من الحق أن نقول إن بعض المستشرقين أنصفوا العرب والحضارة العربية الإسلامية، وقدموا خدمات جليلة وعظيمة لهذه الحضارة لا يمكن نكرانها، بغض النظر عن التقييم في الدوافع والأهداف التي جعلتهم يتصفون بهذه الصفات، وفي حماسهم وتفانيهم وإخلاصهم لهذا العمل العلمي والبحثي في الحقول التاريخية والثقافية العديدة.