26 سبتمبر 2025
تسجيلفي خريف باريس الصيفي والبارد رغم قول وسائل إعلامهم إن عام 2022 هو الأكثر حرارة منذ 30 عاما لأني تعودت على طقس الدوحة، كان لقائي بآخر عمل فكري للأستاذ الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد مترجماً للغة الفرنسية تحت عنوان: الثقافة والإمبريالية، إصدار مؤسسة «فايار» للنشر بالاشتراك مع اكبر صحيفة باريسية «لوموند» بعد طبعتيه الإنجليزية الأصلية وترجمتها العربية التي لم تعجبني ويصدر الكتاب بعد سنوات من وفاته رحمه الله. ويأتي هذا العمل ليجيب عن سؤال حضاري محير وقديم هو: ماذا كان دور الثقافة في نشأة الإمبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر؟ وماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الإمبريالية وذلك الاستعمار إبان معارك التحرير من المغرب العربي والشام ومصر إلى الهند إلى فيتنام إلى أفريقيا السوداء؟ وهذا السؤال العام سبق أن طرحه جامعيون ومثقفون متميزون من كل أنحاء المعمورة وأجابوا عنه أو حاولوا الإجابة عنه، لكن بصورة منفردة ومتفرقة لم تعط هذا الموضوع ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق، بل لم يخصص له أحدهم كتاباً ثقيلاً من هذا الحجم. والسبب هو أن المؤرخين في جملتهم، أولئك الذين ارّخوا لاستقرار الامبراطوريات، كانوا مؤرخين بالمعنى التقليدي أي القائمين بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحركات التاريخ وتحولاته الكبرى، دون العناية بالعامل الثقافي شديد الأهمية، لأن الثقافات هي ضمائر الأمم وذاكرتهم وصانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي. فالثقافة عمل، وهي تؤدي وظائفها بأدواتها المعروفة الظاهرة مثل الأدب والفن والتربية، وبأدواتها الخفية الباطنة مثل الفلسفة والتاريخ والدعاية والإعلام والتراث الشعبي. ولذلك يقول إدوارد سعيد بأن الإمبريالية استقرت بالثقافة واهتزت أركانها بالثقافة المقاومة، وهو صراع بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة بمفهوم العلامة عبدالرحمن بن خلدون، فالأمم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها استعملت الثقافة الإمبريالية إما لتبرير طغيانها أو لتمرير مخططاتها، أما الأمم المغلوبة فلم يأت تحريرها إلا بأدوات مقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال. وتجب الملاحظة بأن هذا الكتاب يعتبره صاحبه إدوارد سعيد تكملة طبيعية لكتابه «الاستشراق» الذي لقي صدى واسعا في المحافل الجامعية والفكرية، نظراً للتحليل الموضوعي والموسوعي الذي قام به الأستاذ سعيد لرصد ظاهرة الاستشراق، لا من حيث هي مجهود علمي بل من حيث هي تمهيد بوعي أو بلا وعي لاستقرار الإمبريالية التي هي بمعناها اللغوي بسط النفوذ الأجنبي ـ عرقياً واقتصادياً وسياسياً وعسكريا.. ثم ثقافياً ـ من قبل أمة على أمة تحت دعاوى «التمدين» أو الوحدة أو الالحاق. وهنا يضرب إدوارد سعيد أمثلة ساطعة ناطقة مثل المثال الهندي. فالمملكة البريطانية فرضت امبراطوريتها ـ وبالطبع امبرياليتها ـ على الهند التي كان عدد سكانها ثلاثمائة مليون نسمة، بجيش بريطاني قوامه ستون ألف جندي يؤطرهم أربعة آلاف موظف ويصاحبهم تسعون ألف مواطن مدني بريطاني. وهذه الحقيقة الغريبة يتفهمها كاتب روائي بريطاني هو (كونراد) ويبررها في رواية «طريق الهند» او رواية «كيم» كواقع طبيعي.. لا مبرر له في الواقع إلا بفكرة ضرورة تمدد الامبراطورية البريطانية كأمر عادي.. بل لا مفر منه، والروائي الشهير (كونراد) لا تبدو عليه علامات العجب او الاعتذار للشعب الهندي الرافض لهذا المد الإمبريالي، بل إن رواياته تتناسى قضية «هامشية» اسمها الأمة الهندية. ويحلل إدوارد سعيد كذلك الظاهرة الشعرية لشاعر بريطانيا (ت. س اليوت)، حيث يتوارى الواقع الإمبريالي خلف أجواء وفضاءات خيالية جمالية فنية لا مجال فيها لتحليل القهر اليومي المسلط على شعوب الجنوب من قبل الاحتلال البريطاني. ونفس الشيء بالنسبة للاستعمار الفرنسي للجزائر تحديداً ولكل المغرب العربي منذ 1830. فقد مر أدباء ومثقفون فرنسيون كبار مرور الكرام على عمليات الإبادة الجماعية والتعذيب، كأنما أدبهم الروائي والشعري لا يتسع لاحتواء نكبة هذه الشعوب العربية المسلمة المغلوبة على أمرها، إذا ما استثنينا موقف الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر ضد التعذيب في الجزائر.. لا ضد احتلال الجزائر.. وأضعف منه موقف الكاتب الفرنسي المولود بالجزائر والحائز على جائزة نوبل (ألبير كامو). وتأتي ثقافة المقاومة الجزائرية والمغاربية لدى (فرانز فانون) ومالك بن نبي وأبو القاسم الشابي والشيخ بن باديس والشيخ الثعالبي والشيخ البشير الإبراهيمي ومفدي زكريا والشاذلي عطاء الله، وغير هؤلاء كثيرون ممن يعود لهم الفضل الثقافي في إحياء جذوة الكفاح والمقاومة التي تمهد الطريق للمجاهدين بالسلاح وبالسياسة للانتصار على الإمبريالية. ويستشهد إدوارد سعيد بخطاب رينولدز الذي يقول: «إن الفن والعلم يشكلان أسس الامبراطورية. حاولوا نزعهما عن جوهر الامبراطورية لن يبقى منها شيء يذكر!، إن الامبراطورية هي التي تتبع الثقافة وليس العكس. ويقارن سعيد بين ثقافة المقاومة في الهند ومثيلتها في المغرب العربي. الأولى ضد الامبراطورية البريطانية والثانية ضد الامبراطورية الفرنسية، ويجد فيهما نسقاً واحداً من الهيمنة بالفن والفكر والتعليم باستضعاف الشعوب المولّى عليها، كما وقع عام 1876 حين أعلنت الملكة فكتوريا نفسها ملكة على الهند وذهب نائب الملكة (لورد لايتن) إلى دلهي الجديدة لتكريسه حاكماً عليها كأنما ذلك أمر طبيعي في مهرجانات «شعبية هندية» لتأكيد الطابع الثقافي التراثي للامبراطورية، بينما الأمر يتعلق بثقافتين مختلفتين تماماً بل متضادتين لا علاقة بينهما إلا من منطق القوة والقهر. وهذا يفسر لماذا لجأ المثقف المغاربي إلى ماضيه ومجده الإسلامي ليستوحي منه المدد والروح لمقاومة الاستعمار الإمبريالي الدخيل. فكان الجهاد الثقافي توطئة وتمهيداً للجهاد بالسلاح من اجل التحرير. ويقرأ الكتاب بعد ذلك أحداث العولمة الطاغية من هذا المنظور ليفتح عيوننا ـ نحن العرب ـ على حقائق الهيمنة الثقافية الجديدة المتخفية ببرقع الشعارات حتى يسهل الاستحواذ على ثرواتنا ومصائرنا.