14 سبتمبر 2025
تسجيلصديقي (أحمد) إنسان منصف وعاقل، بينما صديقي (يوسف) إنسان بسيط ظاهريا، وإن كان لا يخلو من رعونة أحيانا، ولولا معرفتي به لاتهمته بالخبث المغلف بالرعونة. شد انتباهي احد النقاشات بينهما ذات ليلة، بالرغم من أن النفس قد شارفت على التخمة من كثرة النقاشات، لكن ذلك النقاش تحديدا أثار انتباهي، ليس بسبب محتواه بل بسبب أسلوب النقاش نفسه. أولا: كان النقاش يدور حول سؤال طرحه (يوسف) وهو: لماذا استضافت قناة الجزيرة الرئيس الفرنسي لإيضاح موقفه وإيصال رسالته؟ هل انتم تخدمون توجهه؟ هل تريدون مساعدته في تبرير موقفه؟ ألا تحبون الرسول عليه الصلاة والسلام؟ هل كنتم ستفعلون كذا لو قال كذا؟ أو فعل كذا؟ إلى آخر الديباجة المهترئة والمحشوة بالافتراضات التي لم تحدث أصلا حتى نناقشها، ولكنها نفس الديباجة التي مللنا سماعها والتي لا تنتهي عادة إلا بما يريده الذي أخذ زمام المبادرة والذي كان في هذه الحالة صديقنا (يوسف). أما (أحمد) وبالرغم من ذوقه العالي وأدبه الجم وذكائه المتقد واحترامه للموجودين، كان قد بدا لي وكأنه وقع في "الفخ" من حيث لا يعلم، ربما بسبب اتخاذه موقفا عاقلا كان يريد منه الإنصاف والإنصاف فقط. لكن وكما تعلم عزيزي القارئ فإن ذلك المنهج الحواري المتحضر لا يجدي نفعا مع نوعية (يوسف)، والذي كان واضحاً أنه يعتمد على الإثارة في النقاش عن طريق "استمطار" و"استدرار" عواطف الحضور ليكسبهم في صفه، معتقداً انه هكذا تدار النقاشات وأنه هكذا يتم الانتصار فيها بغض النظر عن حجة (أحمد) أو أي شيء يقوله حقاً كان أم باطلاً. لا بد انه قد مر بالكثير منا مثل هذا الموقف، ووجد نفسه في مكان (أحمد) وهو لا شك استفزاز لكل صاحب حق، ولكن الحقيقة هي أن هذا الموقف بسيط جدا وفخ قديم يسهل الخروج منه، بل وقلب الطاولة على رأس صاحبه، ثم اتخاذ موقف الهجوم بل والهجوم القوي أيضا، والاستشهاد بالقرآن الكريم نفسه لكى تقضي على حجة المجحف قضاء مبرما، يمكن أن يضعه في موقف محرج ربما لن ينساه لفترة طويلة. ولكن أولا: دعونا نأخذ النقاش من بدايته ونستعرض أهم عناصر هذا الفخ لكي لا نقع فيه نحن، ولكي نستطيع المشاركة بفاعلية أكبر والرد بكل اريحية على من يناقش من اجل ان ينتصر لنفسه لا للحق. هذا الفخ عزيزي القارئ يطلق عليه "نقطة الارتكاز" (Anchoring) وهو أن يبدأ الطرف صاحب الشبهة (يوسف) بطرح سؤال مشبوه مثل هذا، فانتبه حينئذ جيدا واعرف ان من يحاورك إما أنه ينصب لك فخاً، أو ربما يكون هو قد وقع ضحية هذا الفخ "المصنوع" ربما من جهات أخرى. أقول لك انتبه لأنه بمجرد ان تجيب على سؤاله بأي جواب كان فإنك قد سلمته عنق النقاش ليعبث به كما يشاء، ويسرح ويمرح بلا أدلة، أو حتى بلا استماع لك اصلا في بعض الحالات المتعصبة، فتجد نفسك مهما صرخت بأعلى صوتك متكلما بالحق لا حياة لمن تنادي. لكن اعرف يا سيدي الكريم أن نقطة الارتكاز الاصلية ليست حكرا لأحد، وبإمكانك أن تعيد صياغتها بسؤال بسيط وهو (ولم لا تريد الجزيرة أو أي قناة أخرى أن تنقل اللقاء؟)، ثم اترك الكرة في ملعب (يوسف) قليلا لكي يبرر هو نقطة ارتكازه وسيكون تبريره غالبا هو (لأنها استضافت من أساء لنبينا ﷺ) "في استدرار عواطف الحضور"، فإن فعل هذا يمكنك عندها أن تسأله مباشرة: إذن لماذا أمر الله موسى عليه السلام بمحاورة فرعون وهو الذي قد أساء للذات الالهية وجاء بما هو أعظم وأطم؟ ولماذا أخبرنا الله عن تفاصيل نقاشهما في كتابه؟ أليس لنقتدي بها؟ أم لنصم آذاننا عمن يخالفوننا؟ ثم اترك له الكرة في ملعبه قليلا من باب الإنصاف، ولكي يتسنى لك اكتشاف ما هو الهدف الحقيقي من إثارة هكذا نقاشات وعندها لكل مقام مقال. [email protected]