13 سبتمبر 2025
تسجيلكانت الدولة العثمانية في عقودها الأخيرة، أشبه بجريح ينزف دمه ببطء ولكن بانتظام. وكان النزيف كما أشرت سابقا متحكما فيه أو لنقل أن الانهيار كان متحكما فيه مثل حال هدم البنايات الضحمة الآن. لقد أشرفت الدول الكبرى إشرافا دقيقا على احتضار الدولة العثمانية ومنعت إعلان وفاتها في فترات عدة أهمها عندما أوشك محمد على باشا على دخول اسطنبول في العام 1833، وتلاعبوا بالطرفين، اللذين كانا القوتين الرئيستين الباقيتين في العالم الإسلامي، حتى فتكوا بكليهما. وبحسب دراسة للباحث التونسي رضا العشي، يلخص إبراهيم باشا ذلك التلاعب في رسالة لوالده محمد علي يقول فيها: «السلطان العثماني لا يقدر على أيّ شيء ضدي. أما القناصل الأوروبيون في بلاد الشام فهم مصدر عذاب لي، إنهم لكارثة حقيقية للبلاد». والواضح أن احتمال استلام محمد علي السلطة في اسطنبول وتحوله خليفة للمسلمين، برغم ما قيل عن تبعيته لأجندات خارجية وقتها، لم يكن بالأمر المقبول من الدول الكبرى، لانه من شبه المؤكد أنه كان سيُبقي على الخلافة قوية بدرجة لا تسمح لهم بإسقاطها وقتما شاءوا وربما أمكنه التخلص من أي ولاء كان يربطه بهم حال تحقَقَ له التربع على عرش السلطنة والخلافة. وسنعود لاحقا لمسألة الخلاف بشأن كونها خلافة. هكذا، فإن الصورة الكبيرة التى يمكن رسمها لتلك المرحلة هي، أن الدول الكبرى هي التي كانت تمسك بزمام ومصير الدولة، لفترة طويلة قبل إسقاطها، وهي التي صاغت معظم أحداث تلك الفترة، من خلال فرضها الشروط التي يقوم عليها الحكم ممثلة في دستور 1876 الذي تجاهل الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع. وهل هناك تحكم في العقل العربي المسلم أكبر من ذلك والحال هذه؟! لقد حدث ذلك رسميا في العام 1876 لكن عمليا كان السلطان محمود الثاني قد اتخذ خطوات نحوه قبل ذلك بكثير، بما سمي «خطة التحديث والتغريب»، إذ أمر مبعوثيه إلى المدارس الأوروبية في ثلاثينات القرن التاسع عشر، مثلا، بارتداء الملابس الأوروبية وبخلع العمامة الإسلامية وارتداء الطربوش بدلا منها. وطبق الشيء نفسه حتى على كبار ضباط الجيش. هنا فقدت الأمة عقلها المسلم بالكلية وحل محله العقل الغربي. الخطير أن عملية التحديث ستفرز نهجا غير إسلامي، سيسهل بدرجة أكبر تزايد أعداد الأجانب والمندسين، في أجهزة الحكم العثماني ما سيجعلهم حربا حقيقية على الخلافة من داخلها. فما فعلته حريم السلطان سرا من قبل، فرضه دستور مدحت باشا، علنا، وقهرا وقسرا. وكان من نتائج ذلك التخلي التدريجي عن المظاهر والقيم الإسلامية، أن السلطان تحول إلى منصب شرفي، فعليا، وهو ما سيُفشل مهمة السلطان عبد الحميد الذي تولى السلطة قبيل إقرار الدستور بأسابيع قليلة. ورغم أنه سيوقف العمل به بعد عام واحد فهو سيضطر إلى إعادته بعد فترة وجيزة. وسيستمر المتنفذون الجدد في إحكام السيطرة على الامور في اسطنبول، بينما ستواصل الدول الكبرى تخريب بقية الجسد بالاحتلال و»الاستخراب». ولأن شعوب الأمة كانت تتعامل مع الدولة العثمانية على أنها دولة الخلافة فإن العقل الجمعي لهذه الأمة سيصاب بحالة أشبه بالجنون، وسينفرط عقد أفكاره، عندما ترى الشعوب ذلك الجسد وهو يقطع إربا حتى قبل إعلان موته الرسمي، (سايكس بيكو 1916)، ما سيصيب البعض بالصدمة والجمود، والبعض بالبحث عن عقل آخر، (قومية عربية)، والبعض بالتماهي مع «الاستخراب» العالمي طمعا في تحصيل مكاسب لم تنلها. وهكذا تشتت العقل العربي المسلم، وانقسم إلى عدة عقول باتت في مرحلة لاحقة ربما نعيشها الآن عقولا متصارعة وليست حتى متهادنة، ناهيك عن أن تكون متعاونة، ولينتهي منذ ذلك الحين توصيف العقل العربي المسلم، ويبدأ عصر «العقل العربي» المنفصل الذي تتقاذفه الأمواج، أما العقل المسلم، فقد دخل في غيبوبة طويلة لا يُعلم متى سيفيق منها. وللحديث صلة.