17 سبتمبر 2025

تسجيل

أسرار العدوان الثلاثي على مصر في ذكراه الستين (1)

04 أكتوبر 2016

جمعني منذ بضع سنوات لقاء غريب وغير متوقع مع رجل يحمل في ذاكرته جزءا من تاريخنا العربي وبعضا من فواجعنا العربية، وقد تم ذلك اللقاء في باريس عندما كنت باحثا ومعيدا في جامعة السربون العريقة ولم تكن صفحات المجلات والجرائد العربية مفتوحة في وجهي ولم تكن تتسع لقلمي لأني كنت وقتها معارضا شرسا منفيا.. فاحتفظت بشهادة ذلك الرجل في وثائق على مدى سنوات ثم حال تنقلي بين مناطق عديدة في فرنسا والخليج دون نشرها وضاعت مني إلى أن عثرت عليها في (كراتين) قديمة حرصت على الاحتفاظ بها ووجدت أن تلك الشهادة لا تزال حية بل هي تلقي أضواء ساطعة على جانب غامض من إجهاض الحركة القومية الناصرية عام 1956، وأعتقد أن تعريف الشباب العربي بخفايا العدوان في ذكراه الستين واجب وخدمة للتاريخ، وتذكرون أن الممثل أحمد زكي رحمه الله كان أحيا في شريط ناصر 56 تلك الأحداث الجسيمة ليطلعنا على الوجه العربي من العملة. لكن الوجه الآخر"وجه المعتدين الثلاثة" لا يزال غامضا وسريا وتكتنفه ظلمات خزائن وثائق الدول المعتدية: فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. وأعتقد أنني بنشري لهذا الحديث مع كرستيان بينو وزير خارجية فرنسا عام 1956 أساهم في إماطة اللثام عن أخطر المؤامرات ضد العرب بلسان رجل كان هو المهندس الحقيقي لذلك العدوان مع رئيس الحكومة البريطاني (إيدن) ورئيس الحكومة الإسرائيلية (بن جوريون). لم أكن أصدق من فرط غرابة الموقف! نعم. ما أعجب تصاريف الحياة وما أشد تقلباتها! كنت أخترق الفناء الشهير لجامعة السربون العريقة حيث يجلس تمثال عالم البيولوجيا باستور إلى جانب تمثال شاعر فرنسا الكبير فكتور هيجو. وكان مطر شهر مارس يهطل زخات على بلاط فناء السربون النظيف اللامع وكنت ممسكا بذراع ذلك الرجل العجوز وهو يتحرك بصعوبة ونتجه معا إلى إحدى قاعات الدور الأول، هذا الرجل النحيف القصير ذو الصوت المتهدج الذي أمسك بذراعه لمساعدته تحت المطر هو نفس الرجل الذي هندس للعدوان الثلاثي على مصر وكان قائد (الجوقة الثلاثية) التي قلبت موازين العلاقات الدولية عام 1956، نفس هذا الرجل هو الذي مثل فرنسا في اجتماع (سيفر) السري الذي اتخذ قرار العدوان ونفذه، نفس الرجل الذي قاد جزئيات العدوان وعاش أحداثه من غرفة العمليات وفي معابر قصر الإليزيه وعلى منبر منظمة الأمم المتحدة وكان أبرز الوجوه الثلاثة صانعة العدوان إلى جانب رئيس الحكومة البريطانية (إيدن) ورئيس الحكومة الإسرائيلية (بن جوريون)، كان هذا الرجل الذي يتوكأ على ذراعي هو (كرستيان بينو) وزير خارجية فرنسا في الخمسينيات، أي الرجل الذي كان يحتل الجانب المقابل من خندق الصراع في شريط (ناصر 56) هذا الشريط الذي سعدت بمشاهدته على شاشات السينما وعشت تلك اللحظات الساخنة المتسارعة مع الممثل أحمد زكي وهو يحاول استحضار شخصية عبد الناصر ورسم ملامح ذلك التحدي التاريخي لقوى الاستكبار، كان الرجل العجوز الذي يحدثني بصوت خافت هو (كرستيان بينو) وكنت أصررت على مقابلته حين دعاه أستاذنا المستشرق دومينيك شوفالي ليلقي محاضرة في قسم الدراسات العليا بالسربون عن السياسة الخارجية الفرنسية في الخمسينيات بإزاء حركات تحرر الشعوب، واغتنمت تلك المناسبة لأطلب من كرستيان بينو أن يرفع جزءا من الستار عن العدوان الثلاثي، خاصة وأن الدولتين الأخريين المشاركتين في العدوان حفظتا كل الوثائق المتعلقة بالعدوان في خانة (أسرار الدولة) بل ولم يستطع أي مؤرخ أن يحصل على نسخة من اتفاق (سيفر) الذي وقعه الرجال الثلاثة: بينو وإيدن وبن جوريون والذي يقرر العدوان وخطواته ومراحله وكيف ستقوم الدبلوماسية في كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل بتزييف حقائقه وملابساته وتسويقه للرأي العام العالمي في شكل (تدخل لوقف العنف)! وبدأ كرستيان بينو حديثه باعتراف مفاجئ وخطير حيث قال لي: "أعتقد أننا أخطأنا، نعم أخطأنا ولم أعد شخصيا أؤمن بأن إسرائيل مظلومة وأنا اليوم لا أوافق على كثير من ممارساتها، لكن من الصعب أن نفسر ما حدث عام 56 خارج إطاره التاريخي وخلفياته السياسية". ويواصل كرستيان بينو حديثه قائلا:"ليس سهلا أن نحكم على أحداث الأمس ومواقف الأمس بعيون اليوم وعقول اليوم، فالمعطيات تغيرت والمقتضيات تبدلت حتى معنى التاريخ طالته رياح التغيير، لقد كان العمل العسكري الذي قمنا به نحن وبريطانيا وإسرائيل ابنا شرعيا للعقدة النفسية التي أصابت أوروبا من جراء محنة الشعب اليهودي على أيدي هتلر والنازية، كنا في عام 1945 بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي نشعر بأن علينا دينا يجب تسديده لليهود، كان ذلك هو الشعور السائد في أوروبا كلها، وكنا نعيش تحت وطأة الصور البشعة التي كنا نشاهدها في محطات القطار عندما كان الألمان يأخذون آلاف اليهود في قطارات مكشوفة وفي برد وثلج عشرين تحت الصفر نحو محتشدات (داشو) و(باكنواج)، المشكلة كانت بالنسبة للأوروبيين هي ماذا نقدم لليهود كتعويض؟ وجاءت دولة إسرائيل أنشئت بقرار من منظمة الأمم المتحدة (نوفمبر 47)، ومن جهتنا كأوروبيين حاولنا في مؤتمر روما تكوين نواة للوحدة الأوروبية وفكرت أنا شخصيا في جيش موحد بين ألمانيا وفرنسا، وعند وصولنا للحكم في باريس سنة 1956 برئاسة (جي مولي) فيما سمي بالجبهة الجمهورية اختار للوزارة الأولى (بيار منداس فرانس) الذي ساعد على استقلال المغرب العربي ففي نفس العام 1956 استقلت كل من تونس والمغرب وبدأت حرب مريرة طويلة في الجزائر وشعرنا أن شعارات عبد الناصر وتصريحاته بدأت تشكل دفعا قويا لجيش جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالإضافة إلى إمكانية وصول أسلحة مصرية عبر ليبيا وتونس للثوار الجزائريين، وعينت أنا وزيرا للخارجية لكني لم أكن أدير ملف الجزائر فقد كانت شؤون الجزائر من صلاحيات وزير الشؤون الجزائرية وكان (غاستون ديفير) وزيرا للشؤون الإفريقية ولم أكن أنا على صلة إلا بالقضية المغربية وإرهاصات نفي الملك الراحل محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر بينما تكفل رئيس الحكومة (بيار منداس فرانس) بالملف التونسي الذي أوصله إلى الاستقلال بعد مفاوضات شائكة، وفي تلك السنة 1956 بلغنا نبأ تأميم قناة السويس ومنع عبور البواخر الإسرائيلية ذهابا وإيابا من القناة وقيل لنا وقتئذ إن هذا الإعلان من قبل عبد الناصر ما هو إلا انتقام من الولايات المتحدة وبريطانيا على عدم الموافقة على تمويل بناء السد العالي، وبينما كنا في الحكومة الفرنسية تحت وقع هذه الصدمة، أرسل لنا (بن جوريون) رئيس حكومة إسرائيل يقول: إن عبد الناصر يعد حربا ضد إسرائيل ونحن دولة صغيرة ناشئة وإن تأميم القناة ما هو إلا حلقة أولى في مخطط إبادة شعب إسرائيل. ورددت الصحافة الفرنسية هذا السيناريو الإسرائيلي، وفي مرحلة ثانية فاجأنا (بن جوريون) بقوله:"سوف نبدأ نحن بالحرب الوقائية ونحتاج من فرنسا وبريطانيا فقط إلى غطاء جوي".