12 سبتمبر 2025
تسجيلمشروع الحوار الوطني المشار إليه كان قد ابتدره الرئيس البشير شخصياً في خطاب وجهه للشعب في السابع والعشرين من يناير الماضي.. ودعا فيه إلى قيام حوار "وطني سوداني – سوداني" لا يستثني أحدا يكون هدفه الوحيد والعاجل هو تحقيق تراض وتصالح وطني يخرج البلاد من أزمتها المتطاولة.. وقد وجد مشروع الرئيس تجاوبا سريعا من قطاعات واسعة من أفراد الشعب السوداني بينما احتفظت قطاعات أخرى بقناعاتها التي تتشكك في الهدف الحقيقي من مبادرة الرئيس والذي تحصره في تكتيك مؤقت من الرئيس لكسب الزمن حتى يتمكن النظام من احتواء الأزمات الكثيرة التي تحاصره. وقد زادت شكوك المتشككين في مبادرة الرئيس عندما مضى ما يقارب العام على إطلاقها دون أن يبرز أي فعل عملي لجهة التنفيذ الفعلي لأي من بنودها.. وعاد المتشككون أصلا إلى تذكر القرارات الكثيرة التي أعلن عنها النظام بحماسة شديدة ثم تراجع عنها بنفس الحماسة دون أي تفسير مقنع.. ولكن المتشككين لم ينتظروا طويلا قبل أن يقطعوا شكوكهم باليقين. فقد فاجأ الرئيس، وعلى حين غرة، فاجأ الجميع بوضع سقوف وشروط جديدة للحوار تراجع فيها بالكامل عن البشارات التي كان قد أوعز بها لشعبه لجهة تأجيل الانتخابات التي ستجرى في إبريل القادم، ولجهة إتاحة الحريات السياسية، والانتقال بالبلاد إلى وضع انتقالي تديره حكومة تراض وطني تضع الدستور وتجري انتخابات جديدة، وتلغي القوانين الأمنية القمعية التي تعطل المواد الدستورية الحافظة للحقوق والحريات.. وقد جاءت مفاجأة الرئيس لشعبه من خلال خطاب انفعالي في مؤتمر لعضوية حزبه في ولاية الخرطوم سحب فيه كل الإيحاءات الإيجابية المشار إليها.. وقال الرئيس في خطابه (لا) لتأجيل الانتخابات، وللوضع الانتقالي الذي تطالب به المعارضة، ولإلغاء القوانين الأمنية القمعية. وزاد في هذا الخصوص أنه لا توجد حريات مطلقة سياسية أو صحفية. وزاد الرئيس من تشدده تجاه المعارضة المسلحة ورفض التفاوض معها إلا بشروطه التي تنحصر في إلقائها لسلاحها والقدوم إلى الخرطوم طواعية. وأعلن الرئيس أن السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة المعارض وأمام طائفة الأنصار الدينية الأكبر في السودان عليه أن يتبرأ من اتفاقه مع الجبهة الثورية المسلحة إذا أراد العودة إلى السودان. الاتفاق المشار إليه هو الاتفاق الذي نجح فيه الإمام المهدي في إقناع الجبهة الثورية بأن تؤوب إلى المعارضة المدنية السلمية بدلا من المعارضة المسلحة الشيء الذي رأى فيه المراقبون فتحا سياسيا حققه السيد المهدي وفشل فيه النظام على مدى عقدين من المحاولات مما يستحق عليه السيد المهدي الشكر والتقدير لا العقاب الذي هدده به الرئيس البشير فور عودته من الخارج. في ظل تراجع الرئيس البشير المفاجئ عن معظم بنود مبادرته للحوار الوطني تراجعت كذلك جميع أحزاب المعارضة عن هذا الحوار حتى تلك الأحزاب التي كانت قد انخرطت فيه وهي غير متيقنة من أهدافه البعيدة ولكنها رأت أن تعطي الأمل فرصة كأنها تتعلل بقول الشاعر العربي القديم الطغرائي: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. مرة أخرى تضيع على الشعب السوداني فرصة للتراضي الوطني الذي ظل حلما صعب المنال لهذا الشعب الذي صبر طويلا على أوجاعه السياسية.