12 سبتمبر 2025

تسجيل

لا نقرأ ولا نفهم بفعل فاعل

04 سبتمبر 2017

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); عندما قال المفكر السعودي الراحل، عبد الله القصيمي، إن العرب ظاهرة صوتية، لعن كثيرون وعلى رأسهم المثقفاتية خاشه، وخاش الذين خلفوه (بصراحة لا أعرف ما هو "الخاش"، وأتمنى ألّا تكون مفردة نابية، وأتوقف قليلا كي أتساءل: لماذا عندما يغضب منا شخص على آخر يسبه – مثلا – بعبارة "ابن الكلب"؟ فالمشتوم هنا هو الأب، وليس الشخص الذي يوجّه إليه الكلام، وتحضرني هنا طرفة الخليجي الذي تهاوش مع زول سوداني وقال: يلعن أبوك على اللي جابك، فرد عليه السوداني: عفيت لك شتم أبوي، لكن شد حيلك مع كفيلي فلان اللي جابني، فصار الشاتم يعتذر: تكفى، سامحني، وماكو داعي تورطني في مشكلة). نحن شعوب صناعتها الكلام، ولكل منا جواب لكل سؤال، ولا نؤمن بأن "من قال: لا أدري، فقد أفتى"، بل نفتي ونفتفت كل مسألة، رغم أننا صرنا أمة اقرأ، التي لا تقرأ، وإذا قرأت لا تهضم، وإذا لم تهضم، بالطبع، لا تفهم، ومن يشهد منا الندوات والمحاضرات قد يصاب بنزعات شريرة عندما تخطف المايكروفون ببغاوات عقولها في آذانها، وتبرطم بكلام نسميه في السودان "خارم بارم"، وهي عبارة لا تحتاج إلى شرح تماما مثل "شرم برم كعب الفنجان". ويكمن مصابنا في أن الرواية الشفهية، مازالت عندنا أداة نقل واتصال مهمة وأساسية، بمعنى أن من يعتبرون أنفسهم من أهل الرأي والفكر، لا يهتمون بتدوين وتوثيق ما يقولون، بل يطلقون الكلام في الهواء، كي يسهل عليهم إنكار قوله ولحس الكلام إذا دعا الأمر، لهذا اختلطت علينا الأشياء واشتبه البقر، حتى صرنا نعتبر كل ثرثار يعتلي منبرا ويرغي ويزبد واللعاب يتطاير من فمه "فارسا"، ليس فقط للكلمة، بل للحجة والمنطق، ذلك أننا جعلنا من طق الحنك مهنة، وكل ذي صوت زاعق يصبح مطلوباً في وسائل الإعلام و"بتاع كله". ثم جاء تطبيق واتساب للهواتف الذكية وكشف لنا أن الكثير ممن نعرف في منتهى الغباء، لأنهم يرسلون لك "إشاعة" ركيكة السبك والحبك وهم يحسبونها حقيقة لا يأتيها الباطل من أي اتجاه، ومن ذلك –مثلا الزعم بأن من يرسل صيغة دعاء معين إلى عشرة أو عشرين شخصا، سيكون مستجاب الدعاء بصورة فورية، وتمتنع عن سؤاله عن كيف أعطى نفسه حق الرجم بالغيب، بالزعم بأن دعائي – مثلا – بأن يوصي لي بيل غيتس بعُشر (1/10 ) من ثروته، سيكون مستجابا بمجرد إرسالي لصيغة الدعاء ذلك للعدد المطلوب خلال دقيقة واحدة؟ ثم أنظر بعض قنواتنا الفضائية – ولا أتكلم هنا عن تلك المتخصصة في العهر الإلكتروني، والتحرش اللاسلكي، بل تلك التي يفترض أنها رصينة، وتستضيف على مدار العام شخصيات معينة تجيد فن الاستفزاز والتحريض والسباب، وبالضرورة، التهريج. شخصيات قاموسها محدود وأفكارها محدودة، تجترها شهرا بعد شهر، ولكنها تعرف ما يود العوام أو الحكام سماعه، وبمرور الوقت يزدادون براعة في صناعة اللغو والاستحواذ على التصفيق من جماهير تعرضت عقولها للغسيل الجاف، أو أعطت عقولها إجازة مفتوحة. مصيبتنا هي أننا مازلنا نستخدم معايير ومقاييس سوق عكاظ، لتقييم الساسة والعلماء والمفكرين وأهل الثقافة عامة: الأجهر صوتا والأطول يبقى في الصف الأول، ذو الصوت الخافت والمتواني يبقى في الصف الثاني (كما جاء في قصيدة للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور). وهكذا صار الكلام الرنان الأجوف "يؤكل" بقلاوة وليس مجرد خبز. المهرجون الغوغائيون صاروا مطلوبين على نحو خاص في وسائل الإعلام التي تعمل تحت جزمة الحاكمين بأمرهم، ليقدموا خطابهم الشعبوي الأجوف الذي يدغدغ حواس السابلة والدهماء. وبالمقابل لم يعد للكلمة المكتوبة سوقا رائجة، فطالما هناك من يقدم لك وجبة كلامية سريعة أو "تيك أواي" لا تسبب لك إجهادا عقليا، فما حاجتك إلى الكلام المكتوب الذي يتطلب إعمال الفكر واعتزال الناس (طلبا للهدوء) ثم الهضم والاستنتاج؟ لا داعي لوجع الرأس هذا، لأن تجار الكلام يقدمون لك وجبات كلامية مسبقة الهضم. نعم، فهذا كأن يقوم شخص ما بمضغ بعض الطعام جيدا، ثم إخراجه من فمه ووضعه في حلقك، لينزل جوفك مباشرة دون مجهود من جانبك! ثم يخرج عبر المعبر المحدد خلال دقائق لأنه مهضوم بدرجة عالية سلفا!! إخخخخ؟ قرف؟ ولكن هذا بالضبط، ما يتعرض له من يصفقون ويهللون لكل صاحب حلقوم وبلعوم واسعين. وفي بلدانا ساسة وحكام يتعاملون مع الشعوب بعقليات سوق عكاظ: نحن الكذا الذين فعلوا كذا و"ويلك يا اللي تعادينا يا ويلك ويل"!! صح يا رجال؟ أيوه صح، بنعادي اللي تعادي، ونصادق من تصادق. وهكذا ظهرت في العالم العربي المعلقات النثرية، وهي خطب في معظمها رغوة أو زبد يذهب جفاء وليس فيه ما ينفع الناس، فما فيه نفع للناس ليس مهما، بل المهم هو أن الناس تشتري البضاعة الشفهية، طالما هي حبلى بالطباق والاستعارة والجناس، حتى لو صدرت من تلاميذ الوسواس الخناس.