12 سبتمبر 2025
تسجيلمرة أخرى تتألق الدبلوماسية القطرية بالزيارة التي أداها معالي رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى (كييف) عاصمة أوكرانيا وإعلانه عن مبادئ أصيلة ترتكز عليها مواقف دولة قطر بتوجيه من حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله، وإعلانه أيضا على الإسهام المالي في جملة من الحلول الإنسانية لصالح أطفال أوكرانيا المهجرين قسرا من وطنهم، وكذلك لصالح الشعوب الإفريقية التي تضررت من الحرب وسدت عليها منافذ استيراد الحبوب. في نفس الوقت وفي الدوحة يجتمع ممثلو أفغانستان والولايات المتحدة ليتفقوا على حل سلمي في موضوع الأموال الأفغانية المصادرة المودعة في المصارف الأمريكية ورفع العقوبات المسلطة على كابل حتى تنتهي معضلة بين الدولتين دامت عشرين عاما ثم بفضل الوساطة القطرية تم إغلاق ملفها. ويأتي انقلاب الجيش في النيجر ليؤكد إعادة توزيع مناطق النفوذ بين الأقطاب حيث يبدو أن فرنسا خسرت موقعا آخر من مواقع مستعمراتها القديمة بعد مالي وبوركينا فاسو (يكفي أن نعلم أن فرنسا استخرجت خلال 30 سنة الأخيرة 100 ألف طن من اليورانيوم من مناجم النيجر، بينما تصنف النيجر من أكثر 10 دول فقرا! وأن نذكر أن 30% من كهرباء فرنسا تأتي من المفاعلات النووية التي تنتج الكهرباء باليورانيوم النيجري!. وأتذكر طروحات المفكر المسلم الفرنسي رجاء جارودي منذ ثلاثين سنة. فقد كان رحمه الله أول من أشهر إسلامه من كبار المثقفين الغربيين مباشرة بعد استفاقته التاريخية من غفلة المذهب الشيوعي (وكان عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي وأحد المقاومين للاحتلال النازي لفرنسا) ولي مع الرجل تاريخ بالصدفة منذ أن طالعت كتابه (حوار الحضارات) بالفرنسية سنة 1998 حين كنت مديرا للنشر في دار نشر (جون أفريك بباريس) وتسلمت من صاحبة المؤسسة مخطوطا جديدا من تأليف رجاء جارودي لأتولى نشره وكان عنوانه (الإسلام والغرب) فقرأته لأجده استمرارا للكتاب الأول وإنصافا للإسلام نادرا في هذه الربوع، ثم تعرفت على جارودي شخصيا وأصبحنا نلتقي أسبوعيا في مكتبي نصحح المطبوع ونتحادث طويلا فوجدت أن ما كان يكتبه جارودي وما كان يقوله قبل الآخرين يتحقق اليوم عام 2023 أمام عيوننا لأنه استشرف قبل الجميع أن الصراع الحضاري الاستعماري قادم ما بين قوى استكبارية غاشمة وسارقة وبين عدوين اثنين هما الإسلام والقارة الإفريقية!. وها نحن كمسلمين وكأفارقة نشهد على تحقق رؤية جارودي وما يجري من اجتماع بوتين في موسكو مع القادة الأفارقة ووعده لهم بأن يضخ على شعوبهم القمح مجانا وما جرى من انقلابات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر يؤكد التصادم بين مصالح فرنسا وأوروبا والغرب عموما وبين مصالح كل من روسيا والصين. سبق لأحد المؤرخين الامريكان (كريستوفر ميرولد) صاحب كتاب (بونابرت في مصـر) ان كتب قائلا (ليس هناك ما يشرف الاحتلال الأوروبي للشرق على مدى القرون من اعدام شيوخ الأمة الابطال في مصـر الى حرق قبائل الجزائر في جبال الاطلسي) كل التاريخ الاوروبي منذ قرونهم الوسطى الى ممارسات الولايات المتحدة الامريكية وريثة الاستعمار الاوروبي يمثل سلسلة غير مشرفة من عمليات الابادة الجماعية وبالطبع دائما، فالمسوغات والمبررات جاهزة للاستهلاك. فاحتلال مصـر سنة 1798 كان (لتمدين) الشعب المصـري وانقاذه من استبداد المماليك حتى ولو أدى الامر الى اعدام العلامة حسن الشرقاوي والامام العمدة عبدالوهاب الشبراوي والفقيه العالم يوسف المصيحلي وفضيلة الشيخ اسماعيل البراوي والشيخ الفاضل عبدالقاسم والشيخ سليمان الجوسقي العالم الضرير البصير والحكم غيابيا على تسعة آخرين بالاعدام. الحقيقة أن الحملة الفرنسية على مصر والشام كانت مخططة لمقارعة الإمبراطورية البريطانية وقطع طريق الهند عليها. هذه هي (المدنية) تسعى قادمة من أوروبا لتعدم المجاهد العتيد والبطل محمد كريم ثم ترفع رأسه على حربة عبرة لمن يعتبر وتطوف به الاسواق ثم يأتي الخزي الاكبر بطريقة قتل سليمان الحلبي قاتل كليبر بأكثر الاساليب وحشية. وننتقل من مصـر الى المغرب الاسلامي والجزائر لنقرأ شهادات في مذكرات لجنرالات الاستعمار نشرها كاملة وعلق عليها الصديق رجاء جارودي وفيها من عمليات الابادة الجماعية ما يشيب له الولدان والشعار المرفوع هو التمدين والتنصير، بينما كان الاستعمار يجهض صحوة اسلامية وشورية مباركة في مصـر وفي المغرب الاسلامي ويخنق حركة اصلاحية (ديمقراطية) اسلامية انتفضت في سبيلها الشعوب العربية. وما يجري اليوم من ضرب السودان بحرب أهلية مصطنعة وتعديات عنصرية على الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية انما هو امتداد لتلك الفلسفة الغربية القائمة على ارادة اخضاع الاخرين لهيمنة التحالف المسيحي اليهودي والتمهيد لأسواق النخاسة والهيمنة ولإقامة دين جديد اسمه الإبراهيمية. أحيانا يريد الجبناء إحباطنا برفع شعار (الواقعية) وأنا لا أفرق بين الواقعية والانهزامية وأعترف انني في بعض الحوارات والمواقف تجيش بي بعض العواطف واتحمس لقضية اعتبرها قضية حق الى ان يقنعني محاوري بعكس ذلك. واعترف انني لا اميل الى ما يسميه البعض بالواقعية والبعض الاخر بالجدية والاكاديمية عندما يتعلق الامر بمناقشة قضية ساخنة تهدد مصالح بل وجود العرب والمسلمين. ثم انني اعتبر الواقعية مصطلح تورية وتقية وقناعا لطيفا لنوع من أنواع الاستكانة والانهزامية. فتصوروا ماذا كان يكون مسار التاريخ الاسلامي لو تمسك صلاح الدين الايوبي بالواقعية عندما قيل له ان القوى الصليبية الغازية تمثل جيوش فرنسا والمانيا واسبانيا وايطاليا وبلجيكا والمجر وبيزنطا؟ وماذا كان يكون حال التاريخ المغاربي لو كتب على أمير السيف والقلم عبد القادر الجزائري ان يكون واقعيا؟ وكذلك لو كان الزعيم الفيتنامي (هوشي منه) من أقطاب الواقعية، وكذلك الشهيد البطل الشهم جوهر دوداييف زعيم الشعب الشيشاني المسلم لو قبل الحلول الواقعية التي كان يعرضها الروس، وقس على ذلك لو كان الشيخ احمد ياسين واقعيا ولم يقبل السجن والتضحيات ومثله نيلسون مانديلا الذي حرر شعبه واقام دولة الحق والعدل، سبع وعشرون سنة من السجن لم تجعل منه رجلا عاديا "واقعيا". ان التاريخ يكتبه دائما رجال فضلوا الحلم على الواقع وانحازوا للمستحيل على الممكن. ذلك قدرهم وتلك ارادة الله تعالى.