17 سبتمبر 2025
تسجيلأثناء معايشتي الطويلة للمجتمع الفرنسي وإعلامه رأيت ـ وقرأت ـ عددا من التعليقات المنحازة ولم أكن أتعجب أو أندهش، فذلك أمر عادي أو ظاهرة طبيعية في مجتمع غربي سبقتنا إلى استقطابه ومخاطبته أجهزة الإعلام والدعاية الإسرائيلية قبل جيلين أي منذ الحرب العالمية الثانية ولم نستطع نحن العرب بما نمتلكه من حق أن نقنع الرأي العام بعدالة قضيتنا ولا بإيماننا بهذه القضية ولذلك فأنا أستغرب دائما بعض الاستثناءات المنصفة للعرب والفلسطينيين في هذا الإعلام، ولكن حديثي اليوم ونحن على أبواب صيف باريسي ساخن بسبب الحيص بيص الذي وقع في نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي حرمت رئيسا منتخبا (ماكرون) من أغلبية برلمانية تمكنه من الحكم بل وصعدت إلى البرلمان جناحين كبيرين متناقضين هما اليسار واليمين المتطرف فلم تعد تفهم أيها القارئ العزيز كيف ينتخب الشعب الفرنسي أو كيف يريد دولته؟ مقالي هذا ينطلق من مقالة نشرتها الصحيفة الجهوية ذائعة الانتشار (فرانس أواست) التي تبيع مليون نسخة يوميا (بالمناسبة قارنوا بين هذه الصحيفة ومجموع الصحف والمجلات العربية كلها مشتركة) المقالة منشورة تحت عنوان (المحكمة الإسرائيلية العليا تعلن التعذيب خارجا عن القانون) وبالطبع فإن خبرا كهذا ظاهريا يسعد الناس ويفرح كل متمسك بحقوق الإنسان مهما كان مشربه السياسي أو عرقه أو دينه أو موقفه من إسرائيل خاصة بعد تعاطف الرأي العام العالمي مع قضية اغتيال شيرين أبوعاقلة وإدانة إسرائيل باغتيالها لكن الصحيفة بنوع من الدهاء المعتاد في مثل هذه الشؤون المتعلقة بإسرائيل تتجاوز هذا الخبر المتمثل في موقف المحكمة الإسرائيلية العليا من التعذيب لتعطينا لمحة تاريخية عما كانت تسميه الدولة العبرية (الضغط الجسدي على الموقوفين الفلسطينيين) وكانت نفس المحكمة العليا أجازته لأعوان المخابرات الإسرائيلية وأعوان الموساد والأمن على مدى سنوات حتى لا يشعروا بأي حرج ولا بأي وخز ضمير أو ملاحقة قضائية عند ممارسة التعذيب ـ ما دام التعذيب لا يسمى تعذيبا بل (ضغطا جسديا) ولأسباب الأمن الإسرائيلي ويستعرض المقال بعض طرق التعذيب التي ذهب ضحيتها ستون سجينا فلسطينيا تحت الاستنطاق في السنوات الأخيرة فتقول لنا الصحيفة إن البوليس الإسرائيلي يستعمل طريقة (الشبح) أي أنهم يضعون قناعا سميكا على رأس الموقوف ويوثقونه جالسا على كرسي ويطلقون موسيقى صاخبة في الليل والنهار إلى أن يبلغ المعذب المسكين الجنون ويعترف ويمكن أن يدوم هذا التعذيب أياما وأسابيع ثم تعرض الصحيفة طريقة (الخض) أي أن الجلادين يوثقون السجين ويخضونه خضا عنيفا لمدة ساعات حتى يشعر المسكين بالاحتضار ويعترف وهناك طرق أخرى بالطبع أكثر تفننا وتقنية لكن المقال لا يتهم دولة إسرائيل بشيء ولا يشعر بأنها ارتكبت محرما دوليا أو جناية أخلاقية أو تعديا على ميثاق حقوق الإنسان لا وألف لا فكاتب المقال يقول حرفيا: إن هذا التعذيب يعتز به المناضلون الفلسطينيون ويعتبرونه وساما لكفاحهم.. مضيفا حرفيا بأن التعذيب الإسرائيلي أقل وطأة وعنفا من تعذيب بوليس السلطة الفلسطينية، مما يعطي الانطباع لقراء الصحيفة بأن هذا التعذيب الإسرائيلي مثل ضرب الحبيب حسب المثل الشرقي المعروف وهو بالتالي يشبه أكل الزبيب! فالتعذيب على أيدي بوليس إسرائيل أمر عادي ومطلوب وهي مناسبة للصحيفة الفرنسية لكي تندد بالتعذيب السلطوي الفلسطيني عوض التنديد بالتعذيب الإسرائيلي ونشعر نحن القراء بحاجة إلى التقدم بعبارات الشكر والعرفان بالجميل إلى دولة إسرائيل لأن تعذيبها أخف وألطف وأرقى من التعذيب الفلسطيني ولأن تعذيبها يعد وساما لكل مناضل فلسطيني يستحقه حتى ولو قضى نحبه تحت التعذيب. من وراء كل هذا انضمت بعض آليات الدعاية المعادية لحق الشعب الفلسطيني رغم الخطوات العريضة المقطوعة في الإعلام الفرنسي نحو تعتيم حقوق شعب مضطهد ومشرد ومناضل فهذه الآلية ضخمة وثقيلة وتعمل عملها لتشويه الحقائق وتزييف الواقع وطمس الحق، وهو ما يستدعي دراسة ضافية كنت أنا وجيلي بدأناها في جامعة السوربون في السبعينيات حين وجهنا رسائلنا الجامعية لنيل الماجستير والدكتوراه نحو تفكيك هذه الآلية وفهمها وتحليلها، فالسلام مع إسرائيل لا يعني أن ننسى واجباتنا وننحاز إلى أطروحاتها، بل إلى المزيد من نصرة الحق والدفاع عن الذات في عالم العولمة المتشعب والصعب.