14 سبتمبر 2025
تسجيليوم الثلاثاء دعيت لبرنامج حوار سياسي في قناة فرنسا 24 مباشرة من باريس وشاركت في حوارين الأول باللغة الفرنسية والثاني بالعربية مع ثلة من الأكاديميين والإعلاميين والخبراء في الشأن الدولي وكان اختيار الموضوع مرتبطا بالحدث الأبرز للأسبوع وهو الأزمة التي نتجت عن إسقاط الدفاع السوري لطائرة ف 4 التركية وأعقب ذلك إطلاق النار على طائرة الاستكشاف التي أرسلها الجيش التركي لإنقاذ الطيارين. وقد اتفقنا جميعا رغم اختلاف انتماءاتنا الفكرية وأصولنا العرقية على أن الحالة السورية الراهنة حالة غير مسبوقة منذ أواسط القرن الماضي إلى العشرية الأولى من هذا القرن، وذلك لأسباب موضوعية لا دخل للأيديولوجيات فيها. وهذه الأسباب هي حسب الأهمية: 1) الاختلاف الجغراسترتيجي بين الحالة السورية وحالة دول الربيع العربي. صحيح أن ما يجمع بينها وبين هذه الدول التي انهارت أنظمتها القديمة هو منهج الحكم العائلي والحزب الواحد وهو منهج يؤدي عادة إلى احتقان الوضع السياسي وتحجر الوضع الاجتماعي وانسداد آفاق شرائح واسعة ومحرومة من المواطنين. فالأنظمة التونسية والمصرية والليبية واليمنية اشتركت جميعا في تغول أسرة وحزب على بقية خلق الله ولكن الاختلاف الجوهري بين سوريا وكل من تونس ومصر وليبيا واليمن هو أن النظام السوري قطعة أهم على رقعة الشطرنج في لعبة الأمم لأن قطع الشطرنج في العلاقات الدولية تختلف من بيدق بسيط إلى ملكة إلى شاه مرورا بالفيل والفرس. فالنظام الأسدي منذ 42 سنة مسنود إقليميا من إيران ومن شيعة لبنان ومسكوت عنه من إسرائيل ومن الأردن ومن العراق ومسنود دوليا من روسيا الباحثة عن مجدها الضائع والمستعيدة لقواها النووية وحضورها السياسي وثانيا من الصين الشعبية التي تعملقت خلال العشرين سنة الأخيرة على حساب أزمات الولايات المتحدة وإفلاس مصارفها وفرضت صيانة مصالحها على العالم كلاعب أساسي. 2) بعكس دول الربيع العربي فسوريا هي البوابة الكبرى لعودة الحرب الباردة بين فصيلين لم تتوافق مصالحهما بل تناقضت في حروب العراق وأفغانستان والصراع العربي الإسرائيلي أي في الحقيقة حول مستقبل ضخ النفط والغاز وتأمين تزويد الفصيلين بهاتين الطاقتين بأقل التكاليف وأقل المخاطر، والفصيلان هما بالطبع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون المنضوون جميعا تحت منظمة حلف شمال الأطلسي ومن انحاز لهما من الدول باسم الليبرالية واقتصاد السوق مثل اليابان وكوريا ودول جنوب شرقي آسيا عموما وجزء هام من الدول المسلمة في البلقان وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا وأغلب الدول العربية في الخليج والمشرق والمغرب الإسلامي ويتشكل الفصيل الثاني المقابل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية ومن ترتبط علاقاته بهذين العملاقين مثل إيران وباكستان والهند وأغلب الجمهوريات المستقلة التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي وبعض الدول العربية مثل الجزائر لأسباب تاريخية واقتصادية معروفة. فسقوط محتمل لنظام سوريا الراهن سيشكل للفصيل الثاني بداية انخرام كبير للتوازن الدولي القائم حاليا كما أن بقاء النظام الراهن كما هو يعتبره الفصيل الأول من عوامل بث البلبلة وتوسيع فضاء الفوضى في منطقة تتميز بهشاشتها السياسية وبمخاطر تركيبتها الطائفية (التي يرمز إليها الشام بالسنة والشيعة والدروز والأكراد والمسيحيين من موارنة وأرتدكس بجوار يهود وعرب فلسطين). 3) إن دخول تركيا بسبب إسقاط طائرتها على خط حربي مختلف عن خط إيواء اللاجئين وتشجيع الجيش السوري الحر يعتبر تدشينا لمرحلة جديدة وغير مسبوقة وهي مرحلة محفوفة بالمخاطر يمكن نعتها بالمواجهة المباشرة بين سوريا الرسمية وحلف الناتو. فالحلف تكلم أمينه العام (راسموسن) خلال اجتماع قيادته في بروكسل يوم الثلاثاء الماضي قائلا: "إن هذا العدوان على تركيا غير مقبول وإننا نفكر في تفعيل الفصل الخامس من ميثاق الناتو ضد سوريا". هذه نذر عهد جديد وغير مسبوق لا يمكن التكهن بمصير شعوب المنطقة فيه والعجيب في الأمر أننا لم نشهد حتى مجرد لقاء عربي لتبادل الرأي حوله ولا نقول قمة عربية فكل عربي (حتى القادة) اكتفى بمتابعة ما يحدث على شاشة تليفزيونه كأن الأمر يتعلق بمباراة كرة قدم! "يبدو أن الأرض لم تعد تتكلم عربي".