13 سبتمبر 2025

تسجيل

«سحروا أعين الناس واسترهبوهم» ثنائية الإعلام والرصاصة أفسدت العقد الاجتماعي!

04 يونيو 2024

وقفنا سابقا عند اختراع الرصاصة وأنها غيرت شروط «العقد الاجتماعي» بين الشعب وحاكميه. فالأصل في العقد الاجتماعي أن الشعب يتنازل عن بعض حقوقه في تقرير مصيره لفئة منه مقابل أن تقوم تلك الفئة برعاية مصالحه على أكمل وجه. وبالمناسبة فالعقد الاجتماعي ليس تسمية اخترعها ما يسمى فلاسفة الغرب، بل هي معنى مستقر منذ فجر التاريخ، مهما حاولوا نسبته إلى أسماء مثل هوبز ولوك وروسو. وربما لم يعرف التاريخ فترة كان فيها ذلك العقد في أتمّ صوره وأعدل نماذجه من فترة حياة الرسول الكريم ﷺ ثم الخلفاء الراشدين. وقد حدثت انتهاكات كثيرة لذلك العقد في معظم فترات التاريخ، حتى في بلاد الإسلام، وقبله وبعده. لكن أخطر انتهاك لهذا العقد حدث باختراع الرصاصة وآلات القتل الجماعي. فقديما كان اختراع البارود مهما ولا شك في حسم مصير الحروب والمواجهات بين القوى المتصارعة لكنه لم يكن مصيريا بتلك الدرجة لاستعباد الشعوب بالكلية، جماعات وأفرادا، حتى ظهرت آلات القتل الجماعي. فقد عرف العالم استخدام البارود في الحرب بشكل بدائي أواخر القرن التاسع للميلاد، وقيل إن الصينيين اخترعوه لكن باحثين موثوقين أكدوا أن المسلمين كان لهم ذلك الفضل. ومن ثم ظهرت المدافع التي تطلق ذلك البارود في القرون التالية. وفي أواسط القرن 15، ظهرت المدافع العملاقة التي برع فيها العثمانيون وكانت مفتاح السر في فتح القسطنطينية، وبالتوازي تم اختراع البندقية الشخصية البدائية التي تعمل بالحشوة في الأندلس، حوالي القرن الثالث عشر، والتي تطورت تدريجيا حتى وصلنا إلى الرصاصة التي غيرت كل معايير المواجهة العسكرية والشخصية ومعاني الشجاعة والجبن. لذلك قال الأمريكي صمويل كولت عندما نجح في اختراع المسدس عام 1835 «اليوم يتساوى الشجاع والجبان»، وهي عبارة تفتقر إلى شيء من الدقة فهنا لا يتساوى الشجاع بالجبان بل يصبح الجبان أشجع الشجعان وأقوى الأقوياء طالما كان المسدس في يده وليس في يد غيره. لذلك، أحسب أن الشيء الذي غير، حقا، وجه التاريخ والبشرية وأفسد العقد الاجتماعي، بلا رجعة، ليس العجلة أو المطبعة كما تعلمنا قديما، وليس التلفزيون أو الكمبيوتر كما قيل حديثا، ولكن هذا الشيء هو الرصاصة، وما يلزم لإطلاقها، وكل ما تلى ذلك من أسلحة تقتل عن بعد ودون اشتباك مباشر مع الخصم. هذا هو الذي دشن حقا عصر «العبودية الجماعية» للبشر، إلا ما رحم ربي. فبعد الرصاصة والمسدس، وأخواتهما، بات بإمكان فرد واحد أو بضعة أفراد أن يسيطروا على جموع غفيرة من البشر بل ودول بأسرها ويسلبوهم حريتهم وقرارهم. بعد الرصاصة باتت المعادلة هي: العبودية أو الموت. وأصبح العقد الاجتماعي هو «الخضوع مقابل الحياة» وليس مقابل الخدمة المستحقة، إلا إذا امتلكت أسلحة مماثلة وبقدرات متناسبة (الردع). ولذلك كان من أهم بنود صلح ويستفاليا 1648، الذي أسس النظام العالمي الحالي، احتكار الحاكم للعنف (استخدام السلاح) داخل حدوده، أي حرمان الشعب من هذه القدرات. وهذا ما جعل رأس المال مضافا إليه قوة القتل الفتاكة «الرصاصة» يتحكم في البشر بلا رجعة. فأنت إن لم تقبل الأجر البخس الذي يحدده صاحب رأس المال فليس لك إلا الرصاصة. وإذا عارضت أهواءه وشذوذه وشذوذ أفكاره فليس لك إلا الرصاصة. ربما يرخون لك الحبل قليلا لإرهاقك واستنفاد طاقاتك من خلال مفاوضات شكلية مع عمال مضربين مثلا للمطالبة بزيادة الأجر (تحسين شروط العبودية) أو مع طلاب مطالبين بالعدالة للمظلومين (في غزة)، للتظاهر بأن ما تسمى «الديمقراطية» تعمل، لكنهم في النهاية لا يعطونك إلا الفتات وإن لم تقبل فالرصاصة جاهزة تنتظر ضغطة على الزناد. ولطالما اختلف المفكرون بشأن معنى الحرية. ومن ذلك قول مونتيسكيو (أحد أنبياء العولمة) وصاحب كتاب (روح القوانين المقدس لدى أعداء الإنسانية): «ليست هناك كلمة كالحرية تعددت واختلفت معانيها». وأحسب أن خلافا لا يقل ضراوة كان وسيظل بشأن معنى العبودية. وقد يقول قائل إن الخضوع لأصحاب المال والقوة كان السمة الغالبة على المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، وسيكون معه الحق. فقد استخف فرعون قومه فأطاعوه، ومثله نيرون. ثم تفنن الرومان في إلقاء الأبرياء للوحوش في ساحات الكولوسيوم (المدرجات الرومانية) لتفترسهم. واستمرت ثنائية «الظلم والخضوع» في عصور تالية من أبرزها وأعجبها قصة خضوع شعب كامل لحاكم نحو ستين سنة تخللتها شدة أكل الناس خلالها بعضهم بعضا أحياء من شدة الجوع ورغم ذلك بقي ذلك الحاكم 20 سنة كاملة بعدها يحكم ذلك الشعب، مع أنه بسياساته الفاسدة كان السبب وراءها. لكن الرصاصة هي التي رسخت وبلورت مبدأ استئثار من يملكها بالقوة والسلطة بغض النظر عن مسميات نظم الحكم الشكلية من ديمقراطية أو عسكرية أوغير ذلك. وهي التي مكنت أحفاد ابن سبأ من استعباد زنوج أفريقيا واقتيادهم إلى الأراضي الجديدة في أمريكا الشمالية. وجعلت مقاومة «العبودية» أمرا بعيد المنال إلا إذا كانت تلك مقاومة «صنعت في غزة». أما الذي رسخ حالة الاستعباد التي يعيشها البشر حاليا وجعلهم يستسلمون لجبروت الرصاص وبهتان عبودية الأجور، وكأنهم تحت تنويم مغناطيسي، هو الإعلام بكل مشتقاته من صحافة وتلفزيون وسينما.. إلخ، لتنطبق على جموع البشر وليس على شعب بعينه آية «وسحروا أعين الناس واسترهبوهم». سحر الإعلام، وإرهاب الرصاصة. لذلك كان قول كلمة حق عند سلطان جائر جواز دخولك في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وكان الجهاد ذروة سنام الأعمال في الإسلام، وكانت رسالة الأديان والإسلام خاصة إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.