13 أكتوبر 2025
تسجيلعندما عزم الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب على تعيين أحد قادة المسلمين واليا على أحد أمصار العرب سأل عنه بعض الصحابة فمدحوه إلا رجلا واحدا منهم فذكره وعابه فاتجه له الخليفة الراشد -رضي الله عنه- بالسؤال قائلا: هل صاهرته؟ فقال الرجل لا. فقال هل سافرت معه؟ فأجاب لا. فقال هل شاركته في تجارة؟ فقال لا. فرد عليه عمر قائلا: اذهب فأنت لا تعرفه. هذه الحكمة طالما حضرتني حين أتذكر وجوها حبيبة وكريمة رافقتها في سنوات الجمر والصبر التي طالت لعشريتين وأكثر ونحن في منافينا بعيدا عن الوطن بالجغرافيا وقريبا من الوطن بالقلب والعقل والكفاح، وحين أدعي بأني عرفت رجلا من معدن أحمد المناعي فأنا أمتثل لحكمة الفاروق رضي الله عنه لأني لم أشارك أحمد المناعي في تجارة ولكني شاركته في نضال وهي شراكة أصدق وأبقى ولأني لم أسافر معه في رحلة قصيرة فحسب بل امتدت رفقتنا في رحلة طويلة عسيرة المسالك صعبة السبل قليلة السند شحيحة الزاد، حيث كنا نوفر ما يسد الرمق لأسرتينا، ونتابع دراسة عيالنا بما كتب الله لنا قبل أن تنفرج كربتنا بإرادة العلي القدير فهو لا يضيع مؤمنا ولا يخذل صابرا ولا يرد طالب حق. أول مرة التقيت فيها أحمد المناعي كانت في الشقة الصغيرة قريبا من ساحة (ستالينغراد) بباريس والتي يسكنها الصديق الحبيب المكني وحرمه الفاضلة سوسن الصدفي وكان أحمد غادر تونس بعد فتح أبواب جهنم من قبل الطاغوت على إثر حملة الاعتقالات التي طالت الإسلاميين الذين شاركوا في الترشح تحت شعار حركة النهضة في قائمات مستقلة في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 واستقر بباريس معنا ولكن بمرارة أكبر لأنه ترك زوجته الكريمة وعياله في تونس عرضة للتنكيل والانتقام في حين سعيت أنا ومن المنفى على ترحيل بناتي إلى الولايات المتحدة ورافقني أولادي إلى باريس. وبدأ أحمد يفكر في العودة إلى تونس لهذا السبب المشروع على ما أعتقد معولا على ألا حكم صدر ضده وأنه ربما تغافل عنه النظام واتفقت أنا والأخ الحبيب المكني على نصيحة أحمد بألا يعود إلى بلاد غير مأمونة وإلى حاكم غير أمين لكن إرادة الله غلبت ورجع إلى تونس لكي يمتحنه الله سبحانه في دهاليز «الداخلية» بما دونه أحمد في كتاب بعد تلك المحنة بعنوان (الحديقة السرية لـ بن علي) والذي قدم له الكاتب الفرنسي الكبير (جيل بيرو) وبمعجزة من معجزات الله نجا أحمد من الزبانية وعاد محفوفا بالرعاية الإلهية إلى فرنسا. ثم ترافقنا في كفاح طويل ساندني هو فيه أيام إيقافي في أوت- أغسطس 1992في محكمة (فرساي) استعدادا لتسليمي إلى الطاغوت بعد أن أعد لي عبد الرحيم الزواري «وزير العدل آنذاك» ملفا «قضائيا» يتهمني بالإرهاب وبالاختلاس! عبر أنتربول ففوجئت بأخي أحمد يسبقني للمحكمة في الصباح الباكر مع جمع غفير من الحقوقيين والشرفاء من توانسة وفرنسيين قبل أن أصلها موقوفا ومحفوفا بعوني أمن مهددا بالترحيل إلى تونس مكلبشا حيث ينتظرني القتل لأن بن علي كان يتهمني أنا ومحمد مزالي وأحمد بنور بأننا وراء قضية أخيه (منصف) المتهم بترويج المخدرات في فرنسا. كما وقف معي أحمد حين دعيت لإلقاء كلمة في مؤتمر الجمعيات الإسلامية بفضاء (لوبورجيه) بباريس في ديسمبر 1992 ونالني إعلام المجاري بالشتائم والبهتان ونالتني الملاحقات من المخابرات الفرنسية. وعشت مع أحمد أيضا مغامرات بحثنا المشترك عن جوازات سفر وكانت قمة انتصاره الشخصي والسياسي حين وفقه الله إلى تسريب عائلته من تونس إلى الجزائر ثم إلى فرنسا حيث أكرمه الله بأهله وشد أزره بالسيدة الصالحة المناضلة أم عياله في رحلة الصبر والجمر ثم التأم شملنا حول رفيق الكفاح الشهيد بعد ذلك علي السعيدي الذي اغتيل في تونس بعد عودته لها سنة 2001 وكنا زرناه معا في مستشفى مدينة (إيفرو) بشمال فرنسا بعد أن تعرض لعدوان صعاليك البوليس السياسي التونسي بالعصي والخناجر. وهو عدوان تعرض له أحمد المناعي مرتين في شوارع باريس في محاولة اغتياله كما تعرض له المناضل اليساري المنذر صفر الذي تشوه وجهه بسكين وأذكر أن أحمد لم يكن يريد أن يصنف عقائديا بل يتمسك دائما بالانحياز للحق أينما يراه ويرفض أن يكون له أعداء من أية حساسية كانوا بل هو صديق جميع المضطهدين ونصير كل الملاحقين شكل شبكة من العلاقات الدولية الحقوقية تثق فيه وساعدتنا في محنتنا المتواصلة الطويلة وكان – وما يزال -بحكم تكوينه وعمله كخبير أممي يتمتع بسمعة عالية وصيت رفيع لم يؤثرا على تواضعه الجم وسلوكه الأخوي ودماثة أخلاقه. وإنني أردت تسجيل هذه الكلمات رسالة محبة وتقدير لرجل من رجال تونس الذين لم أرهم يتهافتون بعد الثورة على مكسب أو حتى على عرفان فهو من ذلك المعدن الأصيل الذي خدم وطنه وأخلص لضميره بدون حساب. فجزاه الله عني وعن سواي ممن نصرهم خير الجزاء. هو ابن مدينة الوردانين لم أسمعه بعد الربيع الذي ساهمنا في قدومه يتحدث عما كابده وقاساه في زمن أصبح فيه المتسلقون يسمون أنفسهم (مناضلين) بل يطمعون في رئاسة تونس!. [email protected]