16 سبتمبر 2025

تسجيل

ليبدأ العرب بالوفاق لنبذ الشقاق

04 مارس 2015

من أروع ما يستخلص من زيارة صاحب السمو أمير قطر إلى الولايات المتحدة هو التشخيص العميق و الصادق لحالة العرب اليوم و الوصفة التي قدمها للداء العضال و المتمثلة في زرع الأمل بإقرار الوفاق و نبذ الشقاق ثم هل بلغ حالنا في عالمنا العربي و أمتنا الإسلامية درجة من الفوضى و انعدام البصيرة تدفعنا إلى اليأس والقنوط ؟ و هل استقال الفكر السياسي العربي الإسلامي من التوافق على حلول تخدم مصالح شعوبنا في هذه الدوامة العنيفة ؟ و هل استسلمت نخبنا إلى أن التدخل الأجنبي أصبح قدرا لا مناص منه ؟ إنني من الذين يؤمنون بأن إرادة الأمة هي الأقوى حين تدلهم السبل و تتعقد المسالك و لكن علينا أن نرتب بيوتنا قبل أن ننتظر المعجزات من القوى العظمى التي لا تبحث إلا عن حماية مصالحها و علينا أن نبدأ بالتمسك بالهويات الكبرى دون الهويات الصغرى أي الإيمان بأننا مسلمون قبل أن نكون سنة و شيعة و أننا مؤمنون بالله قبل أن نكون مسلمين و مسيحيين تفرقنا المذاهب و لا يجمعنا الإيمان.تتخبط اليوم شعوب الشرق الأوسط في خريف عاصف من الإنقسام و المخاطر بعد الحلم بربيع قادم مأمول و قد لفت نظري منذ أيام رسم كاريكاتوري على صحيفة (الحقائق ) الصادرة بلندن للفنان المبدع ماجد بدرة، رسم فيه مواطنا عربيا يدفع صخرة أكبر و أثقل منه من سفح الجبل الى قمته كتب عليها الرسام عبارة ( الوفاق الوطني ). و قد كان الرسم أروع وأفصح و أبلغ من مقال، جسد صعوبة بل استحالة السعي وراء الوفاق الوطني في بلداننا العربية، فكلما دفع سيزيف العربي المسكين صخرة الوفاق بصدره وذراعيه نحو القمة الا و تهوي من جديد نحو السفح، و هكذا دواليك منذ نصف قرن من الصدام المرير بين الدولة العربية الحديثة التي جاءت بها مرحلة الاستقلال و لكنها لم تولد بعد و بين شرائح من المجتمع العربي تريد تقويض البناء من أساسه لا اصلاح الخلل فيه أو محاورة النخب الحاكمة بالتي هي أحسن.. و هذه الحالة الصراعية مع الأسف متواجدة في أغلب بلاد العرب باختلافات طفيفة في الحدة و الشدة و اللين و الغلظة و القوة و الدفع، لكنها صراعات أهلية مفتوحة لا نرى لها في جل الحالات حلولا ترضي الجميع. وبصراحة لا أرى لنفسي شخصيا ولقلة من المثقفين الوطنيين العرب غير هذا الرسم للتعبير عن المعاناة التي نلقاها من هنا وهناك كلما دعونا للحوار المسؤول و للوفاق الضروري، بغاية رأب الصدع الذي أصاب مجتمعاتنا منذ انحياز بعض مكونات المعارضة المتشددة الى العمل العنيف أو القول المهدد، و إنحراف بعض شباب العرب و المسلمين إلى الإرهاب وقد بلغت فيه هذه الأقلية درجة غير مسبوقة من العنف الأعمى الخارج عن جميع الشرائع مع أن شعوبنا لم تتهيأ لقبول انتفاضات مجهولة العواقب و وخيمة النتائج، في مجتمعات لا تدرك نوايا المتشنجين، لأن الأغلبية تطالب بالأمن و بالاستقرار ضمن أطر الدولة الحامية العادلة، بالرغم من النقد الطبيعي لبعض مظاهر الضيم أو البطء في تحقيق المأمول. و لقد ساد منذ عقود من العصر الحديث منطق موسى و فرعون ، كأنما امتلك بعض الناس فجأة عصى موسى عليه السلام و أصدروا حكما جائرا و باتا على النخب الحاكمة بأنها هي فرعون و أنها هي الطاغوت، و لكن دون الاستماع حتى لقول الله تعالى الذي أمر موسى و أخاه هارون بأن يقولا قولا لينا. و هذا المنطق الخاطىء هو الذي نشأت عنه ردود الفعل العنيفة من قبل الماسكين بدفة الحكم و التي صعب بعدها ايجاد حلول عقلانية لأزمة سوء التفاهم العميقة و القاسية و الطويلة. و طالما فوجئت بسهولة و عبثية التصنيفات التي يقوم بها البعض من الشباب للناس من حولهم، كأنما المطلوب أن نوضع في قوالب جاهزة من الشعارات و الانتماءات والايديولوجيات لا نخرج منها، و الا وجهوا الينا تهما جاهزة هي الأخرى بالنفاق والمروق و التذيل، خاصين أنفسهم بالطهارة و العصمة و احتكار الحق، بينما الواقع السياسي في بلاد العرب جميعا واقع أكثر تعقيدا و تشابكا و تنوعا من الأحلام الطوباوية. فالخير ليس له ضفة واحدة و الشر ليس له الضفة الأخرى. و ليس هناك جناح انفرد بالأبيض الناصع و جناح أصابته لعنة الأسود القاتم. و انك تجد الصالح في كوادر الدولة و وزاراتها و في هياكل الأحزاب الحاكمة كما تجد الصالح لدى المختلفين مع التوجهات الرسمية، بنفس النسب، مما لا ينفي تواجد الطالح هنا و هناك أيضا. و سر التقدم هو الاختلاف و التنافس النزيه بدون حقد، و التباين بلا ضغينة، مع توخي سبل الكلمة الطيبة من أجل الاصلاح، دون قطع شعرة معاوية، لسبب عقلاني بسيط هو أنه لا بديل عن هذه السبيل و لا مناص من هذا النهج القويم. و اننا نريد أن نستلهم من تجارب الأمم التي تقدمت علينا في الفكر السياسي، و بلغت بالترفع عن الأحقاد شأوا بعيدا من التقدم والرفاه و الأمان. و بلدان الاتحاد الأوروبي في مقدمتها بحيث نرى نماذج من ادارة الاختلاف و التنوع تدعو للاعجاب والتقدير، فالمملكة البلجيكية مثلا تتشكل عرقيا وثقافيا و لغويا من ثلاثة شعوب، طالما شنت الحروب على بعضها البعض في محطات عديدة من تاريخها، ثم استقرت أحوال المملكة على فيدرالية متوازنة ومتحضرة لم تمس من جوهر الانتماء لبلاد واحدة وراية واحدة و مصير مشترك. كذلك الأمر في سويسرة حيث تتعايش شعوب ثلاثة أيضا لتصنع مستقبلها وتحقق أعلى نسب النمو و الدخل الصافي في العالم. و لعل نماذج ألمانيا وأسبانيا وايطاليا لا تختلف كثيرا من حيث اعتماد الحوار و الوفاق لحل الصراعات والاهتداء الى السلام المدني و الدخول بثقة الى التاريخ. و لعل بعض القراء يردون علي بالقول بأن هذه الأمم متقدمة و نحن متخلفون و لا وجه للمقارنة، و هنا يكمن الخطأ الشائع في تقدير العرب، لأن بعض البلدان الأوروبية مثل اليونان و البرتغال و أسبانيا لم تلتحق بالاتحاد الأوروبي الا بعد حل أزماتها الداخلية و اقرار الوفاق المطلوب منها أوروبيا منذ ثلاثة عقود فقط، فتحولت من الانغلاق الى الديمقراطية و تضاعف معدل نموها الاقتصادي أربع مرات بعد أن كانت هذه البلدان الثلاثة لا تختلف في شيء عن أية بلاد عربية أو نامية فاغتنمت الدول الأوربية هذا الوفاق لسن سياسة إقتصادية فالأمر يتعلق اذن بالارادة السياسية و الوعي الحضاري لا بواقع الحال و نسبة النمو و نقص الامكانات. فالتردد في اجراء المصالحة بين مختلف شرائح المجتمع هو سبب من أسباب التخلف، و عوض البدء بالخطوة الأولى على هذا الطريق المستقيم بلا عقد و بدون خلفيات، نتوه في وضع الشروط و المزايدة اللفظية و اتهام المختلفين عنا بأشنع الصفات، فنضيع فرصة جديدة سانحة و نوصد الباب دون الكلمة الطيبة لنعود الى نقطة الصفر وننتظر ربع قرن اخر من المعاناة و تفاقم المأساة.