10 سبتمبر 2025
تسجيلالنوّة اصطلاح يعرفه أهل الإسكندرية وأهل البحار. تتعرض الإسكندرية مع فصل الخريف إلى عدد من النوَّات تنتهي في الربيع، أولاها نوَّة المكنسة. هكذا جاء اسمها لأن المطر يأتي بقوة شديدة يكنس الأرض مما عليها. وآخرها نوَّة عَوَّة في الربيع لأن الريح تعوي بلا مطر، ويقول أهل الإسكندرية «نوَّة عَوَّة مابعدها نوة» .. كانت الإسكندرية يوما بها طريقان لتصريف المياه أحدهما لمياه الشتاء والآخر لمياه الصرف الصحي للبيوت. لا أذكر هل في السبعينيات أم في الثمانينيات من القرن الماضي قام أحد المحافظين بجمع الطريقين في طريق واحد فصارت المياه أكثر مما تحتمل المصارف، وزاد ضيق المصارف بها مع مخالفات المباني الرهيبة في المدينة ومصر كلها، فصارت المصارف تطرد ماينزل إليها من ماء، أو تتركه فوقها في الطريق في الشتاء حائرا تغوض فيه السيارات، ويخلع الناس أحذيتهم ويشمرون سراويلهم وجلاليبهم للعبور. يتحدثون دائما عن قوة النوَّات والحقيقة أنها صارت ضعيفة جدا وتقريبا اختفت، وما نراه على الأرض هو بسبب ما قلت من خلل في طريقة الصرف التي لا تتحمل أقل مطر. النوة الأولى المكنسة موعدها في النصف الثاني من نوفمبر. بعدها باقي المكنسة ونوَّة قاسم والفيضة الصغرى ونوَّة الميلاد وتأتي آخر العام. ثم النوَّات الأخرى حتى الربيع. لم تأت نوة المكنسة إلا بأمطار لا تذكر، ولم تأت النوات الأخرى حتى الآن. كلنا نعرف أن المطر خير وأنه حين ينقطع المطر كان الناس قديما يصلون صلاة الاستسقاء فمعه يأتي الخير، ليس في الزراعة فقط، لكن في الحياة. ما يحدث ليس جديدا لكنه منذ سنوات طويلة. تأخرت النوات كثيرا أو صارت خفيفة حتي عام 2010 حين جاءت نوَّة المكنسة فهطل المطر رهيبا، وكتبت على صفحتي في الفيسبوك، انتظروا الخير لقد هلت البشائر بعد انقطاع كبير. عشرون يوما تقريبا وحدثت ثورة يناير 2011 ولا أنسى أيام الميدان حين كان الشتاء يهطل علينا. عادت النوات الجميلة ثم غابت شيئا فشيئا حتى كادت تختفي كأنها حزينة على ماجرى. أنا لست مغرما بالخرافات لكن هناك عقائد عبر التاريخ يصبح لها وجاهة الحقائق. فمن يستطيع أن يقول أن المطر ليس خيرا بعد هذه الآلاف من السنين. اختفت النوَّات إلا من أمطار ساذجة، فأهملتُ الاهتمام بالأمل أو صار في النسيان. احتفظت لنفسي بالشعور باليأس، وإن كنت اتساءل هل سيتأخر الخير علينا كثيرا إلى درجة أن مقدماته من مطر غابت تقريبا عن البلاد. حين اقبلت نهاية العام منذ أيام لم تأت نوة الميلاد رهيبة المطر. كانت هناك نَوّة أخرى بالتهاني من الناس لبعضها على صفحات السوشيال ميديا، لكني أزعم أن قليلين هم من احتفلوا في بيوتهم بنهاية العام، فلم تأتني من الشقق المجاورة في البيت أو الشارع، أيّ إشارة غناء أو موسيقى كما كان يحدث كل عام. لم تغب غزة وما يحدث فيها عن أغلب الناس، وكثيرون وجدوا الاحتفال الحقيقي لا يزال غائبا، وفي انتظار يوم تنتصر فيه غزة وتدفع اسرائيل الثمن بتفككها من الداخل. حتى طلقات الرصاص التي تنطلق في الساعة الثانية عشرة ليلا مودعة للعام سمعتها ضعيفة كأنها خجلى لا تريد الانطلاق. لكن ما إن بدأ العام الجديد، وفي اليوم الأول من يناير هذا، حتى هبّت نوَّة بقرارات برفع أسعار المترو والقطار وشبكات الإنترنت وكروت شحن الهواتف ورسوم شراء وبيع وتسجيل السيارات في يوم واحد، وربما ترتفع اسعار أخرى وأنا اكتب. هذه هي النَوَّات في بلادنا الآن، لكن رغم أي شيء، فيوما ما سيأتي المطر.