17 سبتمبر 2025

تسجيل

الاجتزاء والانتقاء في غياب النقد العادل

04 يناير 2015

كتب أحد الكتاب منذ فترة تعليقاً على كتاب المفكر الراحل د. محمد عابد الجابري: (في نقد الحاجة إلى الإصلاح)، أنه يمثّل هذا النص للجابري أنموذجا للالتباس المفهومي في الخطاب السياسي العربي الراهن، إذ يعمل تصور ملتبس لمفهوم ما على إعادة تشكيل "الشبكة المفهومية بالكامل تشكيلاً ملتبساً تختلط فيه المعاني والأهداف والتصورات وتضيع البوصلة الموجهة للرؤية الأيديولوجية والفلسفية الكامنة في المفهوم ذاته، وما تنطوي عليه من مبادئ وأحكام واستنتاجات ملازمة". فهل كان الطرح العلماني بالفعل عبّر عن حاجات معيّنة بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات؟ وهل العلمانية مقرونة ضرورة بالإلحاد؟ وهل يمكن الفصل بينها وبين الديمقراطية؟ويضيف هذا الكاتب في فقرة أخرى: "ولكي تكون ثمة ديمقراطية، يجب أن تتوافر شروط ومبادئ أساسية أغفلها موقف الجابري، وأولها الاعتراف بالفرد الإنساني وبمركزيته السياسية والاجتماعية. وثانيها قيام النظام السياسي على عقد اجتماعي يختاره أفراد المجتمع بإرادتهم ويلتزمون به طوعياً. وثالثها المساواة التامة بين أفراد المجتمع في المواطنية والحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو المذهب أو الطائفة".لقد فات الجابري أن هذه الشروط والمبادئ التي تشكل جوهر الديمقراطية لا يمكن تحققها دون العلمانية التي تفصل بين الفضاءين الديني والسياسي.والحقيقة أن المرء يستغرب أشد الاستغراب أن يكون الطرح النقدي من هذا الكاتب بهذه الرؤية والاجتزاء غير الدقيق لقضية العلمانية الغربية.والذي لا يختلف عليه أحد أن العلمانية قضية غربية لمشكلة تقع في صميم الفكر الغربي المسيحي والديانة المسيحية التي تفصل بين الدين والدولة، أو الدين والحياة، وهذا ما عبر عنه القول المأثور المعروف للسيد المسيح أو أحد أتباعه في العصر الأول الميلادي، "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وهذا يعني أن هذه دعوة واضحة للفصل بين الدين والدولة أو السلطة. وعندما حاولت الكنيسة الغربية أن تستأثر بالدين والدولة وتتدخل في قضايا الحياة والكون، كانت الثورة على الكنيسة وأفكارها وتم عزلها وتحجيم دورها الذي كان سلبياً ومناقضاً للعلم والتطور والتقدم.والذي أود قوله على ما قاله الكاتب كريم، أن عزل الكنيسة وفرض العلمنة ليس خروجاً على الدين المسيحي أو إلحاداً، وإنما هو عودة إلى المنابع الأولى للديانة المسيحية التي ترى أنه يجب "أن ندع ما لله لله وما لقيصر لقيصر".. صحيح أنه حدث رد فعل على تجاوزات الكنيسة وتدخلها، وطالت الدين نفسه، ولنا في أفكار وكتابات بعض فلاسفة التنوير العلمانيين ما يغني عن الشرح.لكن هذا المبدأ لا ينطبق على الإسلام كلية، فالإسلام لا يفصل بين الدين والدولة أو الدنيا، لكن هناك تمييز بينهما ضمن أطر ومحددات وضعها الفكر الإسلامي، وتلك مسألة تحتاج إلى طرح آخر.القضية الأخرى التي أشار إليها هذا الكاتب هي قضية ارتباط العلمانية بالديمقراطية، وأنه لابد من العلمانية لكي تطبق الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة... إلخ.والحقيقة أن هذا الرأي يخالف الكثير من تطبيقات العلمانية التي تختلف تطبيقاتها باختلاف الفلسفات والأفكار التي يحملها أصحابها وهذه مسألة معروفة، سواء الفلسفة الليبرالية، أو النظم الشمولية، وحتى لا يعتقد الكاتب أننا نقول كلاماً جزافاً مرسلاً، فإن العلمانية تغاضت عما طبقته الأنظمة القمعية، كالفاشية والماركسية والكولونيالية في مراحل مختلفة لا يسمح المقام بشرحها، لكنها لا تخفى على المتابع الحصيف!!وهذا ما يفسّر ـ كما يقول د. صبحي الصالح ـ في كتابه [الإسلام ومستقبل الحضارة]، "لماذا سايرت العلمانية وما انفكت تساير عدداً من الأيديولوجيات، ولماذا تقف أحياناً كثيرة إلى جانب اليمين، بل حتى اليمين المتطرف، وإن توهم الناس أنها لا تلتقي إلا مع أقصى اليسار! ".ولذلك فإن العلمانية لم تكن حركة منافحة عن الديمقراطية، وإنما كانت أقرب إلى الفكرة الانتهازية التي تبرر ما يفرضه الواقع القائم، ودليلنا على ذلك أن العلمانية في تركيا الكمالية، غير العلمانية في أوروبا التي خرجت منها أساسا، وعلمانية الولايات المتحدة، غير علمانية روسيا وشرق أوروبا، بل إن العلمانية في بريطانيا غير العلمانية في فرنسا، والشواهد متوافرة لا يتسع المقام لسردها.في مقال الكاتب أيضاً إشارة إلى أن محمد عابد الجابري، ربط العلمانية بالإلحاد، وقوله إن العلمانية إنما "أريد بها التعبير عن حاجات معيّنة بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات"، لكن هذا الاقتباس مخالف، مفهوما وطرحا، لما قاله هذا الكاتب، فالجابري يقصد أن نزعة التتريك قابلتها ردة فعل من جانب المسيحيين العرب بالدعوة إلى العلمانية. والجابري يرى أن مطالب الاستقلال موضوعية، لكن أن تتوجه إلى الديمقراطية والعقلانية، وليس إلى العلمانية، لأنه لا توجد كنيسة في الإسلام لفصلها. ولا أدري لماذا قوّل هذا الكاتب محمد عابد الجابري ما لم يقله أبداً، سواء في هذا الكتاب أو في كتبه السابقة التي أشار فيها أيضا إلى قضية العلمانية. بل إن هذا الكاتب اجتزأ بعض الفقرات وترك بعضها الآخر، فالجابري يقول بعد الفقرة التي اقتبسها: "إن الحاجة إلى الاستقلال عن "الترك" في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلاً، إنها مطالب، كانت ولا تزال، مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها أيضاً عندما يعبّر عنها بشعار ملتبس، كشعار "العلمانية"، من أجل هذا نادينا، منذ الثمانينيات من القرن الماضي بضرورة استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية"، فهما اللذان يعبّران، تعبيراً مطابقاً، عن حاجات المجتمع العربي". فأين هي مقولة الجابري للعلمانية بأنها مرتبطة بالإلحاد؟!التجربة الإسلامية إذن مختلفة تماما عن تلك التجربة في الغرب، فالإسلام كما يشير الباحث حسين أحمد أمين في كتابه [دليل المسلم الحزين]، (وهو بالمناسبة لم يكن يعادي العلمانية في كتاباته)، قال إن الإسلام في صدره لم يعرف كنيسة أو نظام رجال الدين، ولا كانت في دولته وقتها طبقة منهم متميزة عن غيرها. فالأمور الدينية والدنيوية واحدة لا تمايز بينها. وإمام الجماعة في الصلاة هو قائدها في الحرب. ولا اختلاف في زي يحكمه اختلاف المنصب، والقرآن كتاب مفتوح، بلسان عربي مبين، بوسع الكافة أن تقرأ فيه. ولا كان ثمة من ادعى أن التفسير حكر عليه. وكان النظر في علوم الدين مرحبا به، مشجعا عليه. كما كان الاجتهاد في أموره متاحا لكل من قدر عليه، كذلك كان الإسلام أكثر الأديان اتفاقا مع المنطق والعقل وطبائع البشر، وكانت تعاليمه أقل التعاليم حاجة إلى الدخول في صراع مع النتائج التي تتوصل إليها العلوم. وبالتالي فإن السلطة في دولته لم تسع إلى الحد من حرية العلماء في أبحاثهم، ولا كانت تتكل بهم دعوى خطر ثمار علمهم على العقيدة".فليس صحيحاً أو منطقيا أن تربط العلمانية بالديمقراطية، فالعلمانية مسألة غربية تاريخية لظرف الصراع بين الكنيسة ورجال التنوير، لكن عالمنا العربي الإسلامي لم يوجد فيه مثل هذا الصراع تاريخيا ولم تشن حرب على العلم والتطور والتقدم، وتلك قضية تستحق الفرز والانتقاء والمراجعة.