14 سبتمبر 2025

تسجيل

إغلاق سوق الخردة السياسية العربية

04 يناير 2012

مهما كانت الصعوبات والعراقيل الظرفية والطبيعية التي ستعطل مسار الإصلاحات العربية المنجزة سنة 2011 فإن الأمر المؤكد هو إغلاق سوق الخردة السياسية التي كانت تباع وتروج لضمائر الناس لتسويق بضاعة مقلدة (من نوع صنع في باريس وهي في الواقع صادرة عن تايوان) لكنها ليست من صنف الساعات الفخمة المغشوشة بل من صنف المؤسسات السياسية المدلسة التي نفقت سوقها اليوم وتم إتلاف بضاعتها البراقة المزيفة في الساحات العامة مصحوبة بهتافات العرب التواقين لأصيل الإصلاحات وعميق التغييرات. وأثيرت كل الاحتمالات المستقبلية حول رياح التغيير الشامل التي تهب على العالم ومدى هبوبها على العرب ودور الأمم الطاغية المهيمنة في تحويل لقاح تلك الرياح لفائدتها هي دون العالمين. وكثر الجدل والجدال بين النخب المثقفة حول اغتنام هذا المنعرج لتحقيق المزيد من الحريات وإنجاز المزيد من الإصلاحات وهو أمر مشروع ما دام يتخذ أشكال المشاركة السلمية في تدبير مصير الأمة ولا ينحرف للفتن. وللتذكير في هذا المجال، هو أنه على مدى عقود عربية طويلة ازدهرت سوق الخردة السياسية أي السوق التي تعرض فيها البضاعة المقلدة والمغشوشة للبيع عوضا عن البضاعة الأصيلة الصحيحة، فنجد أن التعددية الحقيقية اختفت وتركت المكان للتعددية الأحادية، وأن تعديل الدساتير المطلوب حل محله تعديل الدساتير المثقوب (أو بالمقلوب!)، وأن التسامح مع الرأي المخالف عوضه التسامح مع الرأي المرادف، وأن حقوق الإنسان استبدلت بحقوق النسيان، وأن حرية الصحافة جاءت مكانها حرية السخافة، وأن حرية التعبير تحولت بعصا سحرية (الهراوة السحرية!) إلى حرية أكل الشعير. نحن في المغرب العربي نسمي هذه الأسواق باسم سوق (عندكش عندي!) أي أن كل ما تطلبه من البضاعة موجود متوفر لا تنفق سوقه لكن بتغيير طفيف في نوعية البضاعة وتدليس لمصدرها وزمن تصنيعها وتقديمها في لفة جديدة جميلة تراعي الجاذبية ولفت انتباه الزبون وتنقذ المظاهر أمام أمناء السوق من المراقبين الأجانب الذين أصبحوا لا يتورعون عن التدخل فيما لا يعنيهم لدى الدول الأخرى وأحيانا يلقون ما لا يرضيهم من القذف وكيل الشتائم لعلهم يثوب إليهم رشدهم وأن يكفوا عن حشر أنوفهم في شؤون غيرهم. هذه المعاني فهمتها حين قرأت مقال الزميل الفاضل محمد سليم العوا حول المتغيرات المصرية التي تجد في الساحة والتي يبدو أنها تكرس مبدأ سوق الخردة السياسية في مهرجان البهلوانات الدستورية. فالزميل العوا حشر نفسه عن طيب خاطر في زمرة الشرذمة الضالة (حسب صريح قوله...) من الصائدين في الماء العكر ما دام نبع الحكومة هو الوحيد النقي والصافي! وضمن مجموعة (أو عصابة..) الذين في قلوبهم مرض والذين تقع معالجتهم من أمراضهم في المصحات المعروفة! وبالطبع فإن النخبة التي انتخبها الشعب التونسي يوم 23 أكتوبر الماضي تنتمي إلى نفس هذا الصنف في نظر الأنظمة الاستبدادية لأن المتعارف هو أن الحكومة وحدها هي السليمة من العلل والمنزهة عن الزلل والمعصومة من الخلل! وأطرف ما قرأت في مجال سوق الخردة السياسية هو ما كان قد قاله الزميل د. سعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون في مصر بعد أن اتهموه بتلقي إعانة خارجية من الاتحاد الأوروبي لدعم المركز العلمي حيث رد على التهمة آنذاك بالقول: تجب إذن معاقبة مصر كلها لأنها تتلقى إعانة سنوية من الولايات المتحدة تقدر بملياري دولار! ومن العبر البليغة ما كتبه الزميل محمد الحمروني سابقا في صحيفة القدس حين تحدث عن نجاح التجربة الديمقراطية الإثيوبية التعددية فقال: "نخشى أن نكون نحن العرب بعد بضع سنين آخر حلقات التحضر الإنساني ولن نترك خلفنا إلا القردة والخنازير وربما نصبح نحن الحلقة المفقودة للنشوء والارتقاء التي ذكرها شارل داروين". اللهم سترك لهذه الأمة