18 سبتمبر 2025
تسجيلفي صباح يوم ممطر من شتاء عام ٢٠١١ دخل ساحة الحرية بمدينة إب رجل قروي مسن يقف بين أغنامه على ظهر سيارة وعندما سأله أحد أفراد لجنة النظام إلى أين تتجه قال مبتهجا: أتيت لأقدم كل ما أملك هدية لهؤلاء الشباب المعتصمين الذين بفضلهم سنخرج من ربقة الفساد والاستئثار بالثروة إلى عدالة الدولة المدنية الحديثة.. عول اليمنيون كثيرا على ثورة ١١ فبراير، كانت كل شوارع اليمن وساحاتها تضج بهتافات من أجل السلام والمدنية والتغيير، وعندما تدخلت دول جوار بمبادرة ظاهرها إيجاد تسوية سلمية للأزمة وباطنها قتل منطق الثورة في النفوس استقبل الشعب السلمي الثائر المبادرة باحترام كونها صدرت من أخوة في العروبة ومنطق الأخوة له مقتضياته الإيجابية.. كان أهم بند تنظيم انتخابات لتزكية رئيس توافقي، حينها تدفق الناس بالملايين على صناديق الاقتراع لينتخبوا بإرادتهم الحرة لأول مرة رئيسا يحكم البلاد خلال مرحلة انتقالية قالت المبادرة الخليجية إنها مزمنة (بفتح الزاي وتشديد الميم) لكنها كانت في حقيقة الأمر مزمنة (بتسكين الزاي وكسر الميم).أصبح عبد ربه منصور هادي رئيسا للجمهورية بعد ثورة شبابية شعبية سلمية أبهرت القاصي والداني ووجه الإبهار أنها كانت من شعب تتكثف في سمائه الكثير من الانطباعات والأفكار المسبقة السلبية، حصد هادي كل إنجازات الشباب وحظي بدعم غير مسبوق من المجتمع الدولي والجوار الخليجي، كل القوى السياسية والجيش والأمن سلم له خطام الأمر أملا في تغيير وضع سيئ طحن الناس وأذاقهم ضنك المعيشة، سمعت الجماهير المتعطشة لأمل جديد أول خطابات الرئيس المزكى الذي أثار غضب سيبويه وأبي القاسم الشابي لكن اليمنيين غفروا له كل أخطائه اللغوية، رغبة في أن يصدر قرارات تصلح ما اعوج خلال ثلاثة عقود ونيف من حكم الرئيس المخلوع، لكن هادي بين حين وآخر يتلمس الكرسي الذي يجلس عليه ولسان حاله يقول هل أصبحت فعلا رئيسا لبلد ورد ذكره في كل الكتب المقدسة أم أنني مازلت تحت تأثير الروايات البوليسية التي أتسلى بها دائما حتى قبل النوم كما لو كانت أدعية مأثورة.مرت أشهر عدة من فترة حكمه والناس ينتظرون الإجابة على أسئلة: متى ستتم محاربة الفاسدين؟ متى سيقصى المسؤولون الفاشلون؟ متى ستتم هيكلة الجيش ولم شتاته؟ متى سيضرب هادي بيد من حديد كل المتآمرين على البلد، ومتى سيقطع دابر مخربي خطوط نقل الطاقة الكهربائية ومفجري أنابيب النفط؟ هل سيتمكن هادي من لم شمل أبناء اليمن وإيجاد حلول جذرية لمشكلتي صعدة والجنوب؟ كثيرون كانوا يقولون امنحوا الرجل وقتا فمازال يفكر ويقدر، مازال يدرس ويتدارس مع أهل الرأي كيف يخرج اليمن من عنق الزرافة!، لكن الحال الذي وصلت إليه البلاد في الوقت الراهن كشف بوضوح أن الرئيس عبد ربه منصور هادي لم يكن هماما ولا قائدا محبوبا أو حتى مهابا لأن مراحل الإذلال النفسي التي عاشها وآخرها نائبا لرئيس امتهن اللعب على رؤوس الثعابين أثرت في شخصيته وجعلته دائما يبحث عن ركن رشيد مرة يراه في السفير الأمريكي وأخرى في سفراء الدول العشر الراعية للانتقال السياسي السلمي وكان دائم الشكوى من خصومه ومن يتمردون على توجيهاته.. حتى اهتدى إلى ركن يدعي أنه يتسم بالقداسة والرعاية الإلهية ومن يدخل في داره فهو آمن من شياطين السياسة فسلم هادي مقاليد أمره للحوثي بمباركة إيران وبواسطة سلطنة عمان، وهنا بدأت تراجيديا رئيس يخذل شعبه بسقوط قلاع وحصون. لجأ القائد العسكري عبد ربه منصور هادي من اليمن الجنوبية إلى نظام صنعاء بعد أن خسر التناحر على السلطة جناح الرئيس السابق علي ناصر محمد وكانت مجزرة 13 يناير 1986 أسوأ حدث دموي استخدمت فيه أجنحة الحزب الاشتراكي صواريخ عابرة للحارات في مدينة عدن! قتل الآلاف وجرح مثلهم، لكن الضابط الهارب أصبح اليوم رئيسا لكل اليمن بمساحة أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع، وبدل أن يستفيد من تجارب الصراع العبثي القاسية التي لا تبني وطنا، راح يجتر الماضي وثقافة (الطغمة والزمرة) التي دمرت عدن ليجعلها واقعا معيشيا، مدينة سام بن نوح اليوم في قبضة الميليشيات، كل الروايات تتفق على أن مؤسسة الرئاسة قدمت تسهيلا من نوع ما لجماعة الحوثي ليفرضوا سيطرتهم على مؤسسات الدولة، هادي مستمر الآن في مراوغاته السياسية وتوسلاته للحوثيين برفع مسلحيهم من العاصمة ومحافظات أخرى، ورغم أن الرئيس اليمني مصر على استخدام " سيف السلم " إلا أن مؤتمر "حكماء اليمن "! الذي دعا إليه السيد عبد الملك الحوثي هدد بتشكيل مجلس إنقاذ وطني إذا لم يشكل هادي حكومة كفاءات خلال عشرة أيام، هنا فقط بدأ الحديث العلني عن انتزاع الكرسي من تحت هادي رغم أنه بذل جهدا كبيرا في الحفاظ عليه كان الثمن تشتيت الجيش وتفتيت الدولة لصالح الحوثي الذي لا يرى الآن في الرئيس سوى دمية.. كان بإمكان اسم عبدربه منصور هادي أن يسجل في سفر التاريخ بطلا قوميا قاد شعبه إلى الأمن والاستقرار والتنمية خاصة أنه تمكن من إنجاز وثيقة الحوار الوطني التي تؤسس بتوافق كل القوى السياسية ودعم الأطراف الدولية لدولة اتحادية لا مركزية تحقق قدرا من العدالة في توزيع السلطة والثروة، لكن هادي اختار أن يكون بيدقا لأجندات داخلية وخارجية لا يهمها استقرار البلد بقدر ما يهمها تغذية نوازع الانتقام والإقصاء وجعل اليمن جمهورية موز، تلاشى إذا كل فعل حضاري وأخلاقي يصنع حياة للناس وبقي التخلف والمرض وعنف السلاح الهمجي الطائفي وصرخات الموت التي تسقط ضحايا كل يوم ربما لن يكون اغتيال الزيدي المعتدل الدكتور محمد عبد الملك المتوكل إلا حلقة في سلسلة تقود البلاد لمصير مجهول، الرئيس المزكى بعد أن كان حلما جميلا دفع ذلك القروي الذي أهدى كل أغنامه للثوار ووضع بصمته حبا في هادي تحول اليوم إلى كابوس يؤرق حياة اليمنيين عندما قادته سياساته غير الرشيدة لأن يعمل لدى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في اليمن السعيد! ولكن مسماه الوظيفي: حامل الأختام.