07 نوفمبر 2025

تسجيل

ما جدوى نزهة المشتاق؟

03 أكتوبر 2013

أن نتعرف على الآخرين ممن يختلفون عنا في اللغة والدين والثقافة والعادات، فهذا يعني أن نهجر أوطاننا – ولو بصورة مؤقتة – لكي نرحل إلى حيث يقيم هؤلاء الآخرون المختلفون. بهذا المعنى تصبح الرحلة محاولة لاكتشاف الناس الذين لا نعرفهم والتعرف على طبيعة أوطانهم التي قد تتشابه أو تختلف عما ألفناه وعرفناه في أوطاننا، وقد لا يكون للرحلة من هدف إلا المتعة التي تنبثق من فرحة الاكتشاف، وقد تكون وراءها دوافع أخرى، من بينها التفكير في احتلال أوطان ليست لنا واستنزاف ثروات تلك الأوطان التي يفترض – عقليا وإنسانيا – أنها ثروات لأبنائها المنتمين إليها. في كتابه الصغير والجميل الرحلات، يتحدث العلامة الدكتور شوقي ضيف عن الرحلات الجغرافية التي قام بها العرب، وبصفة خاصة منذ عصر المأمون ابن هارون الرشيد، ويقول: إن الجغرافيين العرب قد اتبعوا طريقة ممتعة في وصف عالمهم والعوالم المحيطة بهم، إذ عنوا بالحديث عن عادات الأمم والشعوب وطباعها وما بديارها من آثار وعجائب، وقصوا ما عندها من أساطير وخرافات، وبذلك أصبحت كتبهم الجغرافية كتبا أدبية، تعتمد على المشاهدة وحكاية ما رآه الجغرافي تحت عينه وسمعه بأذنه، وهي من هذه الناحية أقرب إلى أن تكون كتب رحلات منها إلى أن تكون كتبا جغرافية بالمعنى الذي نفهمه اليوم. وينطلق الدكتور شوقي ضيف ليحدثنا – بصورة سريعة لكنها دقيقة – عن كتاب المسالك والممالك لابن حوقل، وكتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق لأبي عبد الله محمد الإدريسي أكبر جغرافيي بلاد المغرب والأندلس، وهكذا نواصل معه إلى أن نصل إلى الرحلات البحرية، ومن بينها عجائب الهند.. بره وبحره وجزائره لبزرك بن شهريار الناخداه، ومن رحلات البحر وما فيها من متاعب ومغامرات إلى رحلات في الأمم والبلدان نمضي مع العلامة الكبير، حيث يحدثنا عن أبي حامد الأندلسي في شرقي أوروبا، وأسامة بن منقذ بين الصليبيين، ثم يفرد فصلا كاملا لرحلة ابن جبير الأندلسي ثم لرحلة ابن بطوطة وجولاته من الأناضول إلى بلاد المغول، وفي الهند، ومن قندهار إلى الصين. يكتسب كل إنسان منا – بدرجة متفاوتة – خبراته الإنسانية من مصدرين، أولهما التجربة المعاشة والشخصية، وثانيهما التجربة المكتسبة من آخرين، بما فيها الشغف بالقراءة بغية التعرف الذي قد يقود إلى الاكتشاف، أو بالمصدرين معا، وهذا هو الأعمق والأكثر فائدة ومتعة، ومن أشهر الرحلات التي امتزج فيها المصدران، التجربة المعاشة والتجربة المكتسبة، رحلة الرائد العظيم رفاعة رافع الطهطاوي إلى بلاد الفرنسيس، والتي سجلها في كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ومن الطريف أن هذا الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفرنسية ولاقى رواجا بين الفرنسيين والفرنسيات، لأنهم أحبوا أن يروا صورتهم هم من خلال عيني إنسان مصري – عربي – شرقي. بعد رفاعة رافع الطهطاوي، انطلق آخرون من العمالقة والمرموقين المشاهير إلى فرنسا وسواها من الدول الأوروبية الغربية، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هؤلاء الذين انطلقوا إلى الغرب من أبناء الشرق الشيخ محمد عبده وجورجي زيدان وميخائيل نعيمة وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي إلى أن نصل – على سبيل المثال – إلى الطيب صالح ورائعته الروائية موسم الهجرة إلى الشمال، وقد اهتم دارسون وباحثون أكاديميون من العرب والغربيين على حد سواء بدراسة تأثير الصدمة الحضارية التي وقع تحت وطأتها هؤلاء العمالقة والمرموقون المشاهير. من الكتب الممتعة والجميلة التي لا تصور رحلة واقعية، بل رحلة متخيلة تلك الكتب التي اصطلح على تسميتها أدب الخيال العلمي، ومنها كتاب عشرون ألف فرسخ تحت سطح الماء لجول فيرن، وكتاب مزرعة الحيوانات لجورج أورويل، أما الكتاب الممتع الذي قرأته منذ صباي، فهو كتاب يتحدث عن رحلة خيالية، وقد اشترك في كتابته طه حسين وتوفيق الحكيم، وهو كتاب القصر المسحور، الذي تقع فيه حوادث عجيبة ووقائع غريبة، من بينها عملية اختطاف توفيق الحكيم نفسه على أيدي أعوان شهر زاد، حيث تم اتهامه بأنه رجل عدو للمرأة ويريد أن ينتقص من مكانتها في المجتمع وفي الحياة، ولكي يتم الإفراج عن توفيق الحكيم كان لابد له أن يتحايل وأن يتجمل وأن يقنع شهر زاد بأنه ليس من طراز شهريار القاسي القلب والذي كان يقتل فتاة عذراء كل ليلة، منتقما من خيانة زوجته له، وذلك قبل أن تروضه شهر زاد بحكاياتها التي استسلم لها وكأنها مخدر سحري ينيمه هادئ الأعصاب ومرتاح البال! مقابل هؤلاء العمالقة والمرموقين الذين انطلقوا من أرضنا العربية إلى دول أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن كثيرين من العمالقة والمرموقين الغربيين والأمريكيين قد انطلقوا إلى أرضنا العربية، أما ما يجمع بين هؤلاء وأولئك فيتمثل في الرغبة في الاستكشاف والتعرف على الآخرين، رغم اختلاف دوافع كل منهم، فكأن هؤلاء جميعا يحبون الانطلاق، لكي يستمتعوا بنزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وأظن أن هذه النزهة لها جدواها، لأن لها مزاياها من جميع زواياها!