18 سبتمبر 2025
تسجيلفي حلقة نقاش بأحد النوادي الثقافية في الدوحة تحدث إليَّ صديق وهو من الكتاب السياسيين قائلا، والحيرة والاستغراب يسكنانه: أزعم أنني كاتب جهبذ وصحفي لامع، لكن مقالي الذي أكتبه دائماً في صحيفة مشهورة وأتناول فيه بأسلوب رصين كل قضايا الأمة وأمراضها وحاضرها ومستقبلها لا يتصفحه على الإنترنت سوى عدد محدود ينحصر بين المائة والألف، بينما بلغت مشاهدة أغنية عربية مغربية على موقع اليوتيوب نحو ١٣٠ مليون مشاهد أو مستمع عربي، بما يعني أن نصف سكان العالم العربي إلا قليلا، لهم مزاج مختلف واهتمامات مغايرة وأولويات ليست من بينها بالتأكيد الأحداث الجسام التي تكاد أن تدمر كثيرا من البلدان العربية والإسلامية. وأردف متسائلاً: برأيك ما الذي جعل هذا العدد الهائل ينصرف إلى هذه الثقافة إذا سلمنا جدلا بأن هذا النوع من الغناء ينتمي إلى الفن والثقافة؟ قلت له: يا صديقي، استغرابك في محله ولكن مقارنتك بدت لي غير موفقة، لكن الإجابة عن سؤالك تبدو بيت القصيد لما يعيشه العالم العربي من ترد وتخلف على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى في بنية الخطاب الديني الذي نجح المتطرف منه في صنع مجموعات تتبنى فكر الحرب من أجل السماء بينما تهدم كل يوم الأرض والحياة معا والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال خير شاهد. عندما يجد سكان العالم العربي الذين يمثل الشباب منهم نحو ٧٠ في المائة خطاباً لا يعالج مشاكلهم ولا يوصل صوتهم إلى الحكام، عندما يذهبون إلى المدرسة أو الجامعة في معظم الدول العربية فلا يجدون المنهج الحديث ولا المعلم أو الأستاذ النموذج، عندما يتخرجون بعد جهد وعناء وصبر ومغالبة على دفع تكاليف التعليم رغم ضيق ذات اليد ثم لا يجدون بعد ذلك فرصة العمل المناسبة لتكون نسبة البطالة العالم العربي هي الأعلى في العالم، عندما يذهب الشباب إلى الحاضنة الدينية وهي المساجد التي كانت في السابق تخرج صناع الحياة فلا يجدون إلا خطابا يغرق في القضايا الخلافية بينما يتجاهل معاناة الناس وحاجاتهم إلى الفكر الخلاق المبدع الذي يكرس ثقافة الفعل الإيجابي المؤثر في الحياة. يرى الكثير من علماء الاجتماع السياسي أن خيبة التوقعات بالتغيير والإخفاق في إرساء الديمقراطية وحقوق المواطنة في العالم العربي يجعل الكثير من الناس وخاصة الشباب يبحثون عن وسائل للترفيه والتسلية تنسيهم الظروف الصعبة وضيق العيش وتكسر الآمال والطموحات. وفي الوقت الذي بدا فيه صديقي مقتنعا ببعض ما سردته لتبديد استغرابه، فإنه أضاف: إننا نعيش في زمن انهيار القيم وفساد الذائقة وصراع الأجيال، قلت له: كل ما ذكرت شيء طبيعي، لأن هذا الجيل وجد في زمن تدفق المعلومة والصورة وأنماط الحياة التي يحتار في أيها يجد نفسه، وما تراه أنت فساداً في الذائقة يراه هو عدم قدرة منك على التعامل مع الأنماط الجديدة في الحياة، وخلاصة القول إنه ما لم تتبن الدول العربية إستراتيجية الاستثمار في الإنسان والشباب على وجه الخصوص وجعلهم رأس المال، فإننا سنظل ننفخ في قربة مقطوعة عندما نصف هذا الجيل بالتمرد والفاشل، بينما تحاصره الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والنتيجة فإن نصف سكان العالم العربي سيبحثون عمن يشيع فيهم الإيجابية وحب الحياة ويقول لهم أنت معلم.