16 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); في "ملائكة وشياطين" ثاني روايات "دان براون" و"المغامرة الأولى لروبرت لانغدون" الذي رأيناه بعد ذلك بطلا لشفرة دافنشي، يجد القارئ نفسه متعاطفا مع البابا، صاحب العقل المنفتح على العلم ومكتشفاته، والقلب الإنساني التائق إلى أن يكون له ابن، والذي يظل ـ برغم هذا التوق ـ الراهب المتمسك ببتوليته. إن البابا في الرواية هو «الرجل الصالح» بشكل ينطبق كل الانطباق على صورته كـ«تابو» يقود الشك ـ مجرد الشك ـ في جدارته إلى أوخم العواقب، أو هذا ما لقيه «كارلو فنتريسا» السكرتير البابوي الذي شك في سيده وأبيه في الوقت نفسه، وتآمر عليه ـ كما تآمر يهوذا على المسيح عليه السلام ـ وكيهوذا أيضا باء فنتريسا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.وفي تفاصيل هذه الرواية لا ينسى «براون» أن يصوب اختيار «فنتريسا» للكرسي البابوي، مستندا إلى نص يجعل «التهليل» والهتاف باسم شخص ـ وإن لم يكن من المرشحين للبابوية ـ سبيلا مشروعا لشغل المنصب. ذلك أن «الكرسي البابوي» بكل ما يحيط به هو «تابو» لا يصح التجديف بشأنه، أو هذا ما ألزم «براون» نفسه به.وفي روايته الأولى «الحصن الرقمي» لم يكن «دان براون» أقل تمسكا بالتابو ودفاعا عنه، فالرواية تؤكد في النهاية أن وكالة الأمن القومي الأمريكية ضرورة، لا للولايات المتحدة فحسب، بل للعالم كله، ورغم اتهامها بالتنصت على مدنيين عاديين (لاحظ فضيحة تنصتها الأخيرة حتى على أقرب حلفائها) فإن القارئ يحبس أنفاسه ويضع يده على قلبه خوفا على الوكالة التي أسسها الرئيس «ترومان» في نوفمبر من العام 1952، لتعمل على تحليل المعلومات الاستخبارية وتأمين الاتصالات بين الجيش والمسؤولين الأمريكيين. هذه الوكالة المسؤولة عن حروب المعلومات وسرقة الأسرار والتي تبلغ ميزانيتها 12 مليار دولار سنويا، ومساحة مقرها 86 هكتارا تضم 25000 مستخدم من علماء الحواسب وخبراء الشفرة وعلماء الرياضيات والفنيين، نجدها ـ فجأة ـ مهددة بالسقوط، وإذا سقط جدار الحماية الإلكتروني لأسرار الوكالة، فإن الخطر «الفظيع» ـ كما تقول الرواية ـ هو أن تصبح أسرار صناعة الصواريخ الباليستية متاحة لدول العالم الثالث (هكذا!) وفي النهاية يمكن للقارئ ـ والحمد لله ـ أن يطمئن على أن هذا لن يحدث، لينام قرير العين!والظاهر أن «براون» يميل إلى التلقين دون أن يشعر، كلما تعلق الأمر بالإدارة الأمريكية، فهو في «حقيقة الخديعة» يقود قارئه إلى أن يرفع القبعة احتراما للرئيس الأمريكي وإدارته، الذين نكتشف أنهم أبعد ما يكون عن كل الشبهات التي لاحقتهم طوال الرواية، ولا نملك إلا أن نقرع أنفسنا تقريعا مضاعفا على ما فرطنا في حقهم وأننا أسأنا الظن بهم. سوء الظن يستغرق الرواية كلها، والبراءة لا تنكشف ـ طبعا ـ إلا في الصفحات الأخيرة، ما يجعل الإحساس بالندم قويا، والشعور بالاحترام مضاعفا. و«براون» هنا لا يقدم أكثر مما هو معتاد في القصص البوليسية عموما، حيث حشد من الإشارات المضللة يقود القارئ بعيدا عن المسار الصحيح، قبل أن تنهار الأضاليل دفعة واحدة. تقنية معتادة لكن «براون» يتقنها أكثر، ويعرف ـ في رواياته الأربع ـ كيف يأخذنا في مسار عكسي، نبتعد فيه عن الحقيقة كلما أوغلنا في المسير، لنكتشف أن ما كنا نبحث عنه كان إلى جوارنا عند البداية، ولو تأنينا ولم نندفع لتعرفنا عليه ببساطة، وهي تقنية ربما ساعده عليها ـ كما يقول ـ أنه يرتدي أحيانا أحذية خاصة تساعده على البقاء في وضع مقلوب، يقول عنه إنه يساعده على حل عقدة الدراما عبر تغيير زاوية نظره إلى الأشياء.لكن «براون»، على أي حال، يعود إلى الوضع معتدلا مرة أخرى، ومعه قراؤه الذين يفاجأون به يقول لهم: ربما كانت زاوية الرؤية المقلوبة مثيرة، لكن الرؤية الصحيحة تأتي لمن يلتزم الاعتدال، محافظا على الثوابت في مكانها، بغير خرق ولا كسر.