19 سبتمبر 2025

تسجيل

الإسلام حضارة فلا يجوز اختزاله في السياسة! (الجزء 1)

03 أغسطس 2020

يمكن اعتبار فبراير 1979 لحظة انتصار الثورة الإيرانية الإسلامية محطة أساسية فارقة في تاريخ الإسلام السياسي والعالم العربي وحتى في الغرب، فقد كتب المفكر الفرنسي الشهير (ميشال فوكو) في تلك الأسابيع كتاباً حول ثورة إيران الإسلامية وصنفها كتحول كبير في الفكر الحضاري الديني، وقال إنها تعلن ميلاد وعي ديني يقاوم الطغيان السياسي وبشر بعصر جديد للإنسانية. أما في العالم العربي فالكتب والأدبيات حول ثورة الإمام الخميني والملالي لا تحصى ولا تعد، بل إن حركات الإسلام السياسي ما بعد الإخوان نشأت في ظلال ثورة إيران وانتشرت ووصل بعضها إلى سدة الحكم أو إلى زنزانات السجون!، وقد وجدت نفسي شخصياً دون إرادة مسبقة مني في خضم العاصفة الإيرانية والسبب هو أنني في أواخر 78 ومطلع 79 كنت باحثاً في قسم دكتوراه الدولة في جامعة السربون أعد رسالتي بإشراف أستاذنا الكبير المستشرق (دومينيك شوفالييه) والتي عنوانها (كيف حللت الصحافة الأوروبية ظاهرة الإسلام السياسي؟) وفجأة وأنا أباشر جمع المراجع في المكتبات الباريسية اندلعت ثورة الشعب الإيراني وحل زعيمها الإمام الخميني في باريس من منفاه العراقي بسعي مشترك بين واشنطن وباريس، واستقر في قرية (نوفل لو شاتو) في ضواحي باريس غير بعيد عن فرساي فرأيت حسب نصائح أستاذي أن أتوجه أيام الجمعة إلى (نوفل لو شاتو) لأستقي المعلومات الأساسية من ينابيعها حول الثورة الإيرانية وزعيمها الخميني وفعلا لم أجد صعوبة كبرى في زيارة مقره، حين شرحت أسبابها وهو مليء بمريديه وحراسه وزعماء المعارضة الإيرانية من غير الإسلاميين وهؤلاء أغلبهم أقام سنوات في فرنسا أمثال أبو الحسن بني صدر وصادق قطب زادة هؤلاء هم الذين طحنتهم الثورة في بداياتها الفوضوية الشعبوية فحكم عليهما بالإعدام ولكن بني صدر هرب إلى فرنسا في طائرة عسكرية، بينما مع الأسف صادق قطب زادة وهو وزير خارجية تم إعدامه، وقد كانا لي نعم المترجمين أثناء زياراتي لمقر أية الله. ثم التقيت بني صدر وهو في مقره الباريسي في قرية (أولناي سوبوا) وأجريت معه حوارات نشرتها سنة 82 على حلقات في صحيفة (العمل) التونسية وتعرفت على زعماء حركة (مجاهدي خلق) ومن بينهم ابنته وزوجها مسعود رجوي وخلال سنتي 78 و79 بعد أداء صلاة الجمعة بإمامة الخميني أتحدث معهما ويترجمان لي ما أمكن من تصريحات أية الله المقتضبة لأضمنها صلب رسالتي في السربون. ونتذكر أنه بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية والانتصار المكثف للإخوان المسلمين في نقابات مصر وبلوغ إخوان الكويت منابر البرلمان ثم تشكيل حكومة من الإخوان في المغرب وتحالف السياسيين الأردنيين مع الإخوان لتشكيل الحكومات الأردنية إلى اليوم مما حرك الحديث في أدبيات العرب عن دور الدين في "أخلقة" السياسة والفرق بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي. وشرع أهل الثقافة والفكر من بين حكماء العرب يتجادلون عن دور هذا الدين الحنيف السمح في توجيه المجتمعات المسلمة وتحقيق تقدمها وصيانة مكاسبها وتجسيد طموحاتها في العزة والكرامة والمجد وعن التعايش المصيري والضروري بين قيم العقيدة ومستحقات السياسة هذا التعايش الذي يبدو للرأي العام لدينا ولدى الغرب صعباً وحمال إشكاليات إذا ما اكتفينا بسماع أصوات بعض الفقهاء أو المتفقهين المتطرفين الذين يقرؤون ظاهر النصوص الحرفية ويوصدون أبواب الاجتهاد ويلغون نعمة العقل فيقدمون للعالم هذا الإسلام الحنيف كأنه إسلام القاعدة أو داعش أو حركة طالبان الأفغانية حين فجرت التماثيل البوذية الأثرية في (باميان) أو إسلام الحدود في صيغتها النصية القابلة في الحقيقة للتفسير والتأويل والتحديث أو إسلام قهر المرأة بينما هو الدين الذي رفع المرأة إلى منزلة الشريك الكامل للرجل وأسند لها الحق في المال المستقل والعمل الكامل والقيادة السياسية والإبداع الثقافي والتأثير التربوي في إنشاء المجتمع والذي حدث خلال ثلث القرن هو إما بلوغ حركات تدعي الإسلام سدة الحكم كما في السودان أو إعلان استئصال علماني متطرف طال كل ما فيه نفس مسلم كما وقع في تونس. وشهدنا على فشل النموذجين وانتهاء التجربتين إلى دمار المجتمعات وتمكين الاستبداد ثم بداية الربيع العربي انطلاقا من تونس وبداية الثورات المضادة لإجهاضه وإعادة العرب إلى بيت الطاعة على خلفية الجدل والصدام بين إسلام الحضارة و إسلام السياسة. [email protected]