15 سبتمبر 2025
تسجيلانطلقت انتفاضتان فلسطينيتان، بعد المماطلات الإسرائيلية طوال سنوات أوسلو وما قبله، التي تعسرت بسبب ما خططت له إسرائيل من هذه الاتفاقيات الهزيلة ، التي لم تلامس الواقع الحقيقي وهو الحل العادل الذي يحقق للشعب الفلسطيني طموحه في استعادة حقه السليب، وعلى رأسها القدس الشريف ، وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي تراوغ إسرائيل عن الوفاء بالتزاماتها بالانسحاب منها ضمن ما يسمى بالعملية السلمية. وجاء دخول شارون لساحة بيت المقدس آنذاك ليعطي انتفاضة الأقصى المبررات العوامل لتحركها، وترد على الكيان الإسرائيلي بأن الشعب العربي الفلسطيني لا يرضى أن تداس مقدساته من هذا الإرهابي والدموي وصاحب التاريخ العريق في التهويد والسيطرة وإقامة المستوطنات الصهيونية من ثلاثة عقود، مهما كانت التحديات والتضحيات ، وهو ما زلزل قادة الكيان والفزع من بذرة الانتفاضة المباركة لتتحول إلى قوة بشرية تسعى للتضحية مهما كان الثمن في مواجهة الاحتلال، والآن بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، والقتل المتواصل للمدنيين ، وخاصة الأطفال فإن الحدث يجعل من انتفاضة ثالثة قادمة لا محالة.فكيف تحركت الانتفاضة الأولى التي أجهضتها اتفاقات أوسلو ومضايقات السلطة الفلسطينية التي خسرت بهذا النهج الخاطئ إسهامها في وقف الانتفاضة ؟ وكيف تحركت انتفاضة الأقصى بعد دخول شارون حرم المسجد الأقصى، استفزازا للشعب الفلسطيني؟ .بدأت الشرارة الأولى من مخيم جباليا وبالتحديد في 8 ديسمبر 1987 عندما كان عدد من العمال الفلسطينيين عائدين من عملهم في إسرائيل ، ويترجلون من السيارة التي تنقلهم أمام حاجز للتفتيش فإذا بشاحنة عسكرية تدهسهم ولاذ سائقها بالفرار. وأسفر هذا الحادث عن سقوط 4 قتلى وسبعة جرحى كلهم مخيم جباليا .وصلت هذه الأنباء إلى المخيم فاشتعل الغضب العارم .وعندما شيعت الأرض المحتلة الشهداء الأربعة تحولت إلى مظاهرات عنيفة شملت كل مخيمات قطاع غزة . وأقام الشباب الحواجز والمتاريس وقذفوا قوات الاحتلال بالحجارة .وكان الظن أن الشرارة التي انطلقت من مخيم جباليا بعد عام آخر ستكون انتفاضة كسابقها لن تتعدى عمرها أيام وتخمد بعد تفريغ شحنة الغضب سواءً من تلقاء نفسها أو بضربة قمع شديدة ، مثلما فعل شارون وما تلاه من الإرهابيين الصهاينة ، ولكن المظاهرات والاشتباكات مع قوات الاحتلال تجدها لليوم الثالث والرابع وشهر وشهرين وعام إلخ : وعمت أنحاء الضفة والقطاع في قراها ومدنها في أكبر تحد لسلطات الاحتلال وإجراءاتها التعسفية والقمعية .في غزة [ التي تمنى إسحاق رابين يوماً أن يقوم من نومه ويرى غزة قد غرقت في البحر !] تحول الصدام بين جماهير الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال إلى معركة حقيقية حيث أغلقت المدينة تماماً وسدت الطرق وامتلأت الشوارع بالحطام وحرائق الإطارات وانتشار الدخان الأسود . قوة انتفاظة الحجارة ويقول البروفسيور " دون بيريز " أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية نيويورك ومدير برنامج الشرق الأوسط بالجامعة نفسها ، أن القليل من السياسيين الإسرائيليين والقادة العسكريين هم الذين توقعوا أن المظاهرات التي اندلعت ضد الاحتلال الإسرائيلي في 8،9 ديسمبر هي شيء مختلف عن تلك التي حدثت في العشرين سنة الماضية . تصورت السلطات الإسرائيلية أن ما حدث في الضفة الغربية وغزة يمكن إخماده في أسابيع قليلة . ولما تخطت الانتفاضة التي قدرت لها [ بعد التنكيل والقتل والتكسير ومختلف الأساليب القمعية في التاريخ الإنساني ] أدرك " إسحاق رابين " وقادة جيشه أن الأسباب الحقيقية وراءها لا تعالج إلا بحل سياسي وليس باستخدام القوة العسكرية . ووصل الأمر إلى أن تبنى بعض ضباط الميدان وأعضاء هيئة الأركان نفس المصطلح العربي [ الانتفاضة ] الذي يستخدمه الفلسطينيون لوصف مجريات الأمور .قبل الانتفاضة بحوالي شهر تنبأ مسؤول رسمي في الأمم المتحدة بحدوثها ، وأدرك أن الانتفاضة أمر حتمي بعد عشرين عاماً من الاحتلال والإحباط وخيبة الأمل ، وكانت الإحباطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حاجة فقط إلى شرارة ليحدث الانفجار الكبير لهذا الشعب الذي لاقى من المعاناة والقهر لم يلقه شعب آخر في العصر الحديث .وقد سجلت في تلك الفترة وثيقة قدمت للأمم المتحدة عن الأوضاع التي يعيشها الأطفال الفلسطينيون ، فذكرت أن هناك جيلاً ينمو في ظل أحوال معيشية واجتماعية وتعليمية قاسية ، ولا شك أنها أحوال صعبة ، ورغم أنه يمكن القول بأن المجتمع الدولي قد ركز اهتمامه لفترة تزيد على ثلاثين عاماً على هؤلاء الفلسطينيين بصفة لاجئين ، وقد حاولت العديد من المنظمات الدولية تأمين المستوى الأساسي للحياة على الأقل ، إلا أن أوضاعهم بقيت متردية وصعبة والاضطرابات السياسية التي شهدتها المنطقة تشكل عنصراً جديداً لم تعايشه غالبية أطفال العالم " .ورغم أن هذه الاضطرابات تترك بصماتها على جميع أطفال العالم إلا أن أطفال الضفة والقطاع ينؤون بعبء إضافي يتمثل في العيش في ظل احتلال قاس ، وعنيف منذ حزيران / يونيو 1967م .وفي ظل هذا المناخ انطلقت شرارة الانتفاضة وسجلت انتصاراً نفسياً ومعنوياً على الاحتلال من خلال صمودها الطويل لتخلق واقعاً جديداً لا بد من إعادة النظر إليه بصورة مختلفة .ويعتقد البعض من المحللين والخبراء الإستراتيجيين أن عملية التسوية التي بدأت بمؤتمر مدريد أكتوبر 1991م كانت اتجاهاً تكتيكياً من إسرائيل لوضع حل لمشكلة الانتفاضة التي أقلقت إسرائيل وشكلت عبئاً أمنياً عليها طوال فترة الانتفاضة ونعتقد أن انتفاضة الأقصى ستكون النهاية للاحتلال .ففي تاريخ فلسطين هناك انتفاضات كثيرة مثل انتفاضة " البراق " عام 1929 وانتفاضة عام 1936، وكان هدفها التذكير بهذا الحق المسلوب .لكن انتفاضة الشعب الأولى بعد احتلال الضفة والقطاع تعد أروع الانتفاضات في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني المكافح ، وإذا جاز للمراقبين إطلاق انتفاضة الأقصى الثانية من خلال المؤشرات والدوافع التي أصبحت كامنة في رفض تطبيق الاتفاقات المعهودة مع الفلسطينيين فإن السيطرة عليها واستدراجها إلى حلول وقضايا ومسكنات ربما يكون في حكم المستحيل بعد كل هذه الرتاجعات والتجاوزات في صلب الحل الذي راعته القوى الكبرى وألزمت نفسها بالعمل على تطبيقه وتنفيذه .لم تدم انتفاضة الأقصى كثيرا، وإن كانت بحق فاعلة تحقيق إرسال رسالة قوية للإسرائيليين ،وان تجد عما عربيا من حيث تحقق الكفاية الذاتية ، وبخاصة في المواد الأولية ، وإذا ما افترضنا إمكان ورود الإعاشة والتموين من الخارج ، فإن الحصار الذي فرضته إسرائيل على الضفة والقطاع لإجهاض الانتفاضة قد قطع الشرايين مع الخارج. ومن عوامل الديمومة للانتفاضة ـ كما يقول هيثم الكيلاني ـ أن تكون لدى قيادة الانتفاضة رؤية إدراكية للذات ، ولقدرات الذات ، ولما ليست الذات قادرة عليه ، وللعدو وقدراته ، ولحدود القدرة العربية ، والعالم ومعطياته ، وبخاصة ميزان القوى ، فهو الأساس وهو المعيار ، والهدف دائماً هو تغيير هذا الميزان ، حتى تشل كفة العدو شيئاً فشيئاً ، وترجح كفة الانتفاضة شيئاً فشيئاً ، مع الأخذ في الاعتبار ، أن الثورة ـ أو العصيان أو الانتفاضة أو المقاومة ـ لا تأخذ ميزان القوى بينها وبين عدوها في الحسبان دوماً ، ولا يجوز لها أن تفعل ذلك ، ولو أخذت كل ثورة ميزان هذا في اعتبارها ، لما شهد التاريخ قط انتفاضة مظلوم على ظالمه غير أن هذا التركيز الذي نسوقه على استمرارية الانتفاضة في زمنها الثاني، وفي زمنها الثالث، بعد استباحة غزة، فلا يعني أننا أمام خاصية حتمية لا انتكاس لها ، ذلك أن عوامل الانقطاع في مسيرة الانتفاضة موجودة وكامنة ، بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي ، وقسم منها نحن مصدره ، وقسم ثاني يأتي من العدو .يمكن القول أن غاية الانتفاضة هي الوصول بالقيادة السياسية العسكرية الحاكمة في إسرائيل إلى حال يغدو القمع غير مجد، ويصبح الخروج من تلك الحالة مشروطاً بالتسليم بمطالب الشعب الفلسطيني العادلة.وما حدث في غزة في الأسابيع الماضية، من قتل وتدمير وحرق، يجعل من انتفاضة فلسطينية شاملة أمرا واقعا، لأن ما جرى في غزة، سيجعل ردود الفعل كبيرة ، وهذا ما يتوقعه الكثير من المحللين، لو استمرت إسرائيل في استباحة غزة، واستمرارها في القتل العشوائي ، واستهداف المدنيين والمساجد والمدارس.