03 نوفمبر 2025

تسجيل

لا تحقرنّ معروفًا ولا ذنبًا (2)

03 يوليو 2014

كان لدى سلفنا الصالح، يقين صادق، وثقة تامة، بكلام الله تعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يسمعون بشيءٍ منه، إلا وعوه وفعلوه، ومن ذلك ما جاء من فعل أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها، الذي ينم عن تصديقها ويقينها الكاملين، بقول الله تعالى: (من يعمل مثقال ذرة خيراً يره)، وقول رسول الله: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، فيما روي عنها أنها تصدقت بعنبة، وقالت: (كم فيها من مثقال ذرة)، الله أكبر، كم نضيّع بجهلنا وغفلتنا الكثير من مثاقيل الذر!، وتفوتنا أجورها، فوات الهباء المنثور، من بين أيدينا. تحكي لنا السنة المشرفة، أمثلة مضيئة هادية مرشدة، عن أناسٍ قاموا بأعمال هينة يسيرة، في غاية اليسر والسهولة، متناهية في الصغر، لو قورنت بغيرها من الأعمال الصالحة، التي يَعْمَد إليها، ويتكئ عليها أصحابها، ويرجون ثوابها العظيم، أدخلهم الله بسببها الجنة، لمّا خلصت نيتهم لله فيها وصدقت، ونبعت من رحمة القلب، وعاطفة الوجدان، وشفقة النفس.ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (بينما رجلٌ يمشي بطريق، وجد غُصن شوكٍ على الطريق، فأخّره، فشكر الله له، فغفر له)، لا شك أن هذا الرجل، حدّثته نفسه، وهو يميط ذلك الشوك، أنه قد يؤذي أحداً من المسلمين، ممن يمرون في الطريق، فكان دافع عمله هذا، الرحمة والرأفة بالناس، من أن يصيبهم بلاء، وتلمُّ بهم ضراء، فكان أن غفر له رب الأرض والسماء، على ما أبداه من نية صافية خالصة بيضاء. وفي الصحيحين أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (بينما كلبٌ يُطيفُ بركِيَّةٍ - يدور حول بئر - كاد يقتله العطش، إذ رأته بغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها -خُفّها- فاستقت له به، فسَقَته فغُفِر لها به)، انظروا هدانا وعلمنا الله وإياكم، هذه امرأةٌ زانية من بني إسرائيل، صنعت خيراً، وفعلت معروفاً، وقدمته إلى كلبٍ، وكان أداتها في ذلك حذاؤها، فكان جزاؤها مغفرة من الله ورضوان، لكنها الشفقة التي ثارت في نفسها، والرحمة التي نازعت قلبها، فكوفِئت عليهما، الرحمة التي لا يرحم الله إلا من كانت في قلبه، كما جاء في الحديث:(إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فجميع السعادة والهناءة، لمن خالطت قلبه الرحمة، وكل الشقاوة والتعاسة، لمن قسا قلبه -عياذاً بالله - حتى صار غليظاً كالجدار أو كالأحجار، أو أشد قسوة، لا ينفذ إليه شيءٌ، ولا يَبضُّ بشيء، (وإنّ من الحجارةِ لما يتفجّر منه الأنهار.. وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء.. وإنّ منها لما يهبط من خشية الله)، فما بال قلوب أشقياء بني آدم، في قسوتها لا تلين ولا تتأثر ولا تخشع، على حين يحدث ذلك للحجارة نفسها، كما بينت الآية، لذلك فهاتيك القلوب أشد منها قسوةً ولا عذر لها، فيما لم يعذر منه الحجر.أختم بقصة صاحب الرغيف، التي رويت عن أبي موسى الأشعريّ:لمّا حضرت أبا موسى الأشعري الوفاة، قال: يا بَنِيّ اذكروا صاحب الرغيف، فقالوا: يا أبانا من صاحبُ الرغيف؟ قال: كان رجل يتعبد في صومعته، سبعين سنة، لا ينزل إلا في يومٍ واحد، فنزل ذات مرة، فرأى امرأةً جميلة زينها الشيطان في عينه، فقضى معها سبع ليالٍ في الحرام، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً، فكان كلما خطا خطوةً صلى وسجد، فآواه الليل إلى دكان فيه اثنا عشر مسكيناً، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان هناك راهبٌ يبعث إليهم كل ليلة من يقسم بينهم أرغفةً، فيعطي كل إنسانٍ رغيفاً، فلما جاءهم، أعطى كل إنسانٍ رغيفاً، ومر على ذلك الذي خرج تائباً، فظنّ أنه مسكينٌ فأعطاهُ رغيفاً، فقال الذي لم يُعطَ منهم: ما لك لم تعطني رغيفي؟ قال: أتُراني أُمسكه عنك؟! والله ما عندي شيءٌ أعطيك إياه، فعَمَد التائب إلى الرغيف الذي عنده، فدفعه إلى المسكين، فأصبح التائب ميْتاً، قال: فوُزنت السبعون سنة، بالسبع الليالي، فلم تَزِن، فوُزِن الرغيف بالسبع ليالي، فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بَنيّ اذكروا صاحب الرغيف.قال الله تعالى: (إنّ اللهَ لا يظلمُ الناسَ شيئاً ولكنّ الناسَ أنفُسَهُم يَظلِمون).