30 أكتوبر 2025

تسجيل

أيقظ خلوتك

03 يونيو 2018

قضينا ساعات كثيرة من أوقاتنا في النوم، بل تستطيع أن تقول قضينا أعمارًا كثيرة ونحن نائمون، وقد حان الوقت لنستيقظ من هذا السبات العميق وننتفع بما تبقى من أعمارنا، فخلوتنا لا بد وأن تكون مع الله باتباع أوامره والبعد عن نواهيه، بالتقرب إليه بالصلاة والأذكار، فنستغفره، وندعوه ونبتهل إليه ليتوب علينا، ونتضرع إليه ليتقبل صلواتنا، لا أن تكون خلوتنا مع الشيطان، وربما لم يكن الشيطان سببًا رئيسًا في طول واستمرار معصيتك؛ لأنه فقط وسوس إليك بفكرة صغيرة وذهب ليوسوس لك بأخرى، فما كان من أمرك إلا أن نفسك قد زينت لك تلك المعصية، وأخذَتْ تأمرك بالإثم لتقع في براثن تلك النفس الأمارة بالسوء، وخصوصا أنك في رمضان وقد سلسلت الشياطين، ولم تبق إلا نفسك الإمارة بالسوء. إذًا كيف نوقظ خلوتنا؟ وكيف نحيي تلك الأوقات الخفية، التي نبتعد فيها عن أعين الناس، نحييها بالطاعة والاستغفار وتذكر أن الله — عز وجل — مراقب لنا، وألا نجعل الله أهون الناظرين إلينا، فلا تظنَّنَّ أنك حين تبتعد عن الناس، وحين لا يسمع حسيسك أحد أنك ابتعدت عن كل رقيب، فأين أنت من قول الله — عز وجل —: "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" فعلم الله يتعدى كونك محبوسًا بين جدران ومغلقًا للباب وموصدًا لمنافذ الرؤية، فإن الله عز وجل علمه يتعدى كل هذا ويعلم ما يقر في نفسك قبل أن تفعله، فما بالك إذا بادرت بفعله، أليس الله بعلام الغيوب. إذًا أيقظ ليلك بطاعة الله عز وجل، ألا تحب أن تكون جليس الله، الأمر بسيط ليس عليك إلا أن تذكر الله عز وجل، الخلوة قد تكون قصيرة أو طويلة، وفي كلا الحالين هي خلوة بالله عز وجل، فإن نويت في أي دقائق بسيطة لا يراقبك فيها أحد أنك قد اعتكفت لله وخلوت به، فقد حُق لك أجرُ مَن اعتكف لله، فقد حققت شرط تفرغ قلبك لله، وعدم اطلاع غيرك على تلك السويعات أو الدقائق التي تقضيها داعيًا عابدًا لله عز وجل. عليك أن تترك هموم الحياة التي لا تنتهي وراءك، ليصفو ذهنك من المشاغل اليومية، ثم اذهب بين يدي الله باكيًا تائبًا عائدًا إلى الله ناويًا ألا تعود مرة أخرى إلى معصيته، متذكرًا تلك المقابر التي تحوي آلاف البشر وكلهم جميعًا قضوا نحبهم وهم يعدون لأنفسهم قوائم أعمال طويلة لا حصر لها، متناسين أن العمر مهما طال فهو قصير، والموت حقيقة لا مفر منها، حيث تنتقل إلى أرض الدود والجفاف لا تستطيع أن تتنفس مرة أخرى، ولا تستطيع أن تعيد روحك إلى الحياة مرة أخرى، فقد قضي الأمر وحكم عليك بالشقاء الأبدي أو النعيم المؤبد، ولن تتذكر هذه المشاعر وتلك الأحاسيس إلا إذا خلوت بالله عز وجل فتتذكر رقيبًا وعتيدًا وهما يسجلان ما تلفظ من حروف وهنَّات، فعلمت أنك في حاجة ماسة إلى الخلو بالله ومناجاته، فمَن لنا إلا الله ليرحمنا من سوء المآل، مَن لنا إلا الله لينتشلنا من سوء العاقبة، وقد أغرقنا أنفسنا بالذنوب والآثام، "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ"، ألم يأن لنا أن نقرأ كلام الله برَوِيَّة وفهمٍ وتدقيقٍ وتمحيص حتى تتخلل حروفه دماءنا فتتقاطر بعض الدمعات التي نرجو أن تكون سببًا في غفران بعض ذنوبنا، ألم يأنِ لنا أن نذكر أسماء الله وصفاته، فنتذكر التوَّاب الذي يقبل توبة عباده مهما بلغت معاصيهم، ونتذكر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الضالون، ونتدبر صفة الجبار فنتحكم في أنفسنا مبتعدين عن المحرمات، وليس هناك فرصة أفضل من رمضان حيث تُقيَّد الشياطين، وتتعامل مع نفسك فتربيها بحق على ما تقتضيه صفاتُ الله، وتبدأ في بناء ذاتك مرة أخرى لتكون أكثر مقاومة للشياطين ووساوسهم، ثم لتتفكر في خلق الله عز وجل وإبداعه فتتعجب من صنيعه وتستشعر عظمته ألم يقل الله — عز وجل — في كتابه: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" فبينما أنت تختلي بالله عز وجل تأمَّل خلقك، يدك وقدمك وعينيك وشفتيك ودقات قلبك ودفقات أنفاسك، وقتئذٍ سيحيط بك يقين أن حياتك وكونك وعالَمَك وأمرك كله بيد الله يفعل بك ما يشاء، فتخرج من شهر عظيم كرمضان وأنت أصلب عودًا وأشد عزمًا على طاعة الله، فهذه الخلوة مهما بدت قصيرة إلا أنها إذا استمرت كان لها أثر طيب، فألزم نفسك قراءة ولو صفحة من كتاب الله، أو استغفارًا في أوقات مواصلاتك. ولا تنسَ أن السعادة وجودها بذكر الله كما قال ربنا تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" فالقلب الخاشع والتفكُّر في آلاء الله آناء الليل وأطراف النهار، والتعمق في الخلوة الحقيقية، وسط مشاغل الحياة وتراكماتها، سيبدل حالك من حال إلى حال مختلف تمامًا، ستنتقل إلى حال أنت أهدأ فيه طباعًا وأحسن فيه خلقًا، ستعاد تربيتك بصدق على عين الله، فحياتك التي تشبه الترس الذي لا يقف أبدًا إلا بالموت، ذلك الترس الذي يدور ويدور فتنتقل من عمل إلى آخر، ومن صفقة إلى صفقة أكبر، ومن مشكلة إلى مشكلة ثانية، ومن حل للأولى إلى حل للثانية والثالثة، فحياتك صارت عبارة عن مشاق كثيرة ومادية بصورة بحتة، وأنت الآن في أعز احتياج إلى عودة حياتك الروحية في هذا الشهر المبارك، وعليك ألا تفقدها مرة ثانية، وإذا لم تفقدها فعليك أن تشحنها بالطاقة للاستمرار معك فيما تبقى لك من عمر، واعلم أنه مهما طال قصير. وفي الحديث: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، فقيام الليل نعمة عظيمة تجعل من خلوتك حصيدًا للحسنات التي لا تنتهي، وقد قال بعض العلماء: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة. فمناجاة الله ومناداته والشعور بتقصيرك تجاهه ودموع الخلوة التي لا يعلمها إلا أنت والله، كل ذلك أفضل ما يكون وقت العزلة مع الله، حيث لا رقيب أو ناظر، حيث تبث كل ما يحمله صدرك من أشجان على ذنوبك، وقلة شكرك، وركضك في الدنيا كأنها حياتك الأبدية، وما أحلاها من مناجاة تفوق طعم العسل الحلو، لذة الشعور بقربك من الله، وأن الله قد هيأ لك تلك العبادة العظيمة لتعبده بها، فنعم العمل ونعم التوفيق. ولهذا كن كالفضيل بن عياض حين يقول: "إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي وإذا طلعت حزنت لدخول الناس عليَّ". ليل العابدين سكون ووقار، يبعدهم عن الرياء، والخلوة مع الله تزيد العابدين قربًا وأنسًا بالله. والصلاة هي زادهم متى اتخذت من الليل ميقاتًا كانت خير زاد من التقوى والقرب من الله، فالذين آمنوا أشد حبًّا لله، يقومون، ويركعون، ويسجدون، ويذكرون، ويُسبِّحون، ويقرأون القرآن، ويتوبون، ويستغفرون، ويناجون الله ويدعونه، ويبكون من خشيته. فلا تنسَ أن تأخذ قسطًا من ذلك الزاد، فسفرك يحتاج لذلك الزاد حتى لا تهلكك الدنيا بمفاتنها، وتذكَّر قول الله سبحانه وتعالى: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا".