13 سبتمبر 2025

تسجيل

درس قطري في المسؤولية والديمقراطية

03 يونيو 2015

ليس من المعتاد في عالمنا العربي الممتد من المحيط إلى الخليج أن يقدم مسؤول على تقديم استقالته من عمله نتيجة خطأ أو إخفاق، وعادة تسيل الدماء حتى الركب من أجل الحفاظ على المنصب و"الكرسي" مهما بلغ الثمن.أخونا الأستاذ جابر الحرمي، فرض نفسه من القلة النادرة في عالمنا العربي، وتقدم باستقالته بسبب نشر صورة غير ملائمة في خطأ ارتكبه أحد الصحفيين العاملين في الصحيفة، ومثل هذا الأمر يحدث في كل المؤسسات الصحفية، وخلال عملي في الصحافة على مدى ربع قرن مررت بتجارب كثيرة، وكنت شاهدا على أخطاء فادحة في بعض الأحيان، وهي من طبيعة الحياة، فمن يعمل يخطئ، وفقط الذين لا يعملون شيئا لا يخطئون.الخطوة التي أقدم عليها الزميل الأستاذ جابر كانت كافية لإثارة تسونامي على مواقع التواصل الاجتماعي، وتدفقت التغريدات والهاشتاغات على موقع تويتر حتى بلغت أكثر من 530 ألفا خلال نصف ساعة، وهو رقم قياسي يصعب تسجيله عربيا خلال هذه الفترة الوجيزة، مما يظهر الشعبية التي يحظى بها قطريا وعربيا، محليا وخارجيا، لقد كانت التغريدات تتدفق حتى كاد تويتر أن يحترق.ما أقدم عليه الحرمي درس في تحمل المسؤولية وعدم التهرب منها، على الرغم من أن الصورة نزلت في ملحق ولم تنشر في الصحيفة، ورغم أن الصورة لا يمكن معرفة ما فيها إلا إذا دققتها بمجهر إلكتروني، ويكاد من المستحيل أن تعرف ما فيها عندما تكون "بروفة" مطبوعة في الأبيض والأسود، ورغم ذلك تحمل عبء هذا الخطأ وتقدم باستقالته مقرونة باعتذار كبير، مما يظهر شخصيته القيادية، واستعداده لتحمل الغرم، ويعبر عن شفافية جميلة.قبل عامين كتب الزميل الحرمي مقالا عن ثقافة تقديم "الاستقالة".. متى نراها في مجتمعنا؟ وشاء الله أن يطبق عمليا ما كتب "نحن بحاجة إلى ثقافة الاعتراف بالخطأ والتقصير، وهذا لا يقلل من قيمة الشخص، بل يكبر عند الآخرين، ويفرض احترامه عند الرأي العام، لذلك أعيد طرح السؤال: لماذا لا يقدم المسؤول الذي يخفق في تحقيق إنجازات في القطاع الذي يتولاه، على تقديم استقالته؟ لم يخفق الحرمي بل حقق إنجازات كبيرة كرست الشرق الصحيفة الأولى في قطر، ودخل قائمة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم العربي، ومع هذا قدم استقالته بسبب "خطأ" وليس إخفاقا، لكنه أراد أن يكون نموذجا عمليا لترجمة ما كتبه على أرض الواقع.علاقتي بالحرمي تعود إلى عام 1993 عندما تعرفت عليه في الخرطوم، وشاء الله أن آتي إلى قطر للعمل في الشرق بعد ذلك بسنوات، وهناك تعرفت على شاب يدخل القلب مباشرة، وكنا بصحبة الزميلين جمال خاشقجي ومحمود عبدالهادي، ونخبة من الشباب الرائعين.ليس من عادتي المدح والثناء، لكنني أمتلك جرأة قول كلمة الحق كما أمتلك جرأة النقد والدفاع عن موقفي مهما كان الثمن، وهذا يمنحني فرصة لأقول ما أعرف بحق أخي وصديقي وزميلي، فقد بدأ سلم الصحافة من الدرجة الأولى، وانطلق من المكان الصحيح، انطلق مراسلا في الشارع، وارتقى حتى وصل إلى رئاسة التحرير، ورغم ذلك فإن أحب الألقاب إلى نفسه "صحفي"، فالمناصب زائلة، لكن ما بناه واكتسبه في مهنته، ليس منصبا يزول أبدا.يندر أن تجد رئيس تحرير يبقى في صحيفته لكي يكون آخر من يخرج، وكم من المرات سهرت معه حتى أوقات متأخرة، يتابع الصفحات تباعا بحرص وإتقان، برفقة المايسترو الرائع أخي وصديقي وزميلي الدكتور عبد المطلب صديق، الذي لن أوفيه حقه إلا إذا كتبت عنه ما يليق به.ثورة تويتر بأكثر من نصف مليون تغريدة كانت استفتاء حيا وعلى الهواء مباشرة عن شعبية أخي جابر الحرمي، وكانت استفتاء على جريدة الشرق وتأثيرها ومدى متابعتها، ولولا أنها جريدة مهمة مؤثرة ومتابعة على نطاق واسع لما أحدثت صورة كل هذا الصدى، فكم من صور وأخبار نشرت في صحف أخرى، مرت مرور الكرام دون أن يعبأ بها أحد.ليس صدفة أن يشارك كثيرون من العالم العربي بالدعوة لرفض استقالة الحرمي، من أناس عاديين ونخب وعلماء، مما يعكس المحبة لهذه الحالة القطرية، ومما يعكس المدى الذي وصلت إليه "القوة الناعمة" القطرية. هذه التجربة منحتنا الفرصة لكي نعرف عن قرب المدى الذي وصل إليه تأثير "الحالة القطرية"، شعبيا، وخاصة ما يمكن أن أطلق عليها "الشعب الإلكتروني" من رواد تويتر وفيسبوك ومواقع اجتماعية أخرى.أشعر بالسعادة أن مجلس إدارة الشرق رفض الاستقالة، وأشعر بالسعادة أكثر أن أخي جابر الحرمي كان واثقا من نفسه وقويا في تحمله المسؤولية وليس تحميل ذلك للأغيار، وأشعر أنني محظوظ بأنني عرفت عن قرب رجلا نبيلا خلوقا متواضعا يعطي درسا عمليا في المسؤولية والديمقراطية.