13 سبتمبر 2025

تسجيل

جدلية الهوية والحرية والشرعية

03 يونيو 2015

كلما ادلهمت أمامي سبل الخلاص من الخطر الذي يتربص بالعالم الإسلامي ومنه العرب وكلما رأيت القنابل والبراميل المتفجرة والراجمات تقتل الأبرياء في العراق وسوريا وليبيا واليمن كلما رجعت بذاكرتي إلى عقود ماضية وإلى التسعينيات تحديدا حين كنا مجموعة من المجتهدين المسلمين الوسطيين جمعتنا جامعة قطر الرائدة وكنا في الحقيقة قادمين من منافينا وبعضنا من سجونه ملاحقين من أنظمة عاتية مستبدة لم تطرح قضية الهوية وعلاقتها بالتنمية والحرية أبداً، بل اكتفت نخبهم باستعمال العصا وشهدنا سقوط طغاة الجمهوريات العرب وهم يستعدون لتوريث شعوبهم لأولادهم وأصهارهم كأن الشعوب قطيع أغنام ولم تصمد الأنظمة المعادية للهوية بعد سنوات أمام عواصف التغيير والغضب مثلما كنا نتوقع، أملا في عدالة الله سبحانه. وكنا، تونسيين ومصريين وسوريين وفلسطينيين وخليجيين، نتحاور حول أسباب تخلف العرب واستهداف المسلمين ولم نكتف بالحوار، بل أنشأنا أول موقع في الشبكة لخدمة الإسلام وهو الموقع الرائد (إسلام أون لاين) لا يزال حيا وفاعلا إلى اليوم، ثم نظمنا، بفضل رشاد القيادة السياسية والعلمية القطرية ندوات حوار بين الأديان السماوية الثلاثة وتجادلنا مع أكبر علماء ومفكري المسيحية واليهودية حول أقوم المسالك لسن عهد جديد من التسامح وإقرار العدل في النظام العالمي الجائر. ولعل أهم سؤال حاولنا الإجابة عنه لا يزال قائما اليوم ولم تحل معضلات المسلمين بين فرقتين كبيرتين: فرقة تعتقد أن الهروب للتاريخ القديم وإلغاء العصر هو الحل وفرقة تعتقد أن الهروب للجغرافيا، أي للغرب، وإلغاء التراث هو الحل! واليوم ينادي بعض الشباب بالعودة للماضي دون النظر في تحولات العصر وتوازن القوى وينادي بعض شباب النخب العلمانية باللجوء إلى الغرب المتغول وتقليده دون أي اعتبار لهوية المسلمين وأمجادهم وحقوقهم.وما شد إعجابي هذا الأسبوع هو الحديث المهم الذي ألقته صاحبة السمو الشيخة موزا في جامعة أكسفورد حول نفس المعاني، حين أكدت أن الخوف من الإسلام هو نوع من أنواع العنصرية والظلم وأن عنف داعش هو جزء من العنف الذي شهده العالم في جوانتانامو وأبو غريب وأن الإسلام حمال قيم ورسالات كونية.وهذا الحديث القيم دليل على أن الأسئلة الكبرى لا تزال مطروحة على الضمائر المسلمة ولعل الإجابة الجريئة عنها تدلنا إلى صراط السلام والأمن والتقدم والعودة لصنع الحضارة. أذكر أننا كنا نتناقش في التسعينيات رغم أننا بعيدون عن شأن بلداننا حول رأي أبداه الشيخ يوسف القرضاوي في قناة الجزيرة، كيف مر مرور الكرام، ولم يعلق عليه لا الفقهاء ولا المفكرون المسلمون؟. أعجب من هذا الصمم التقليدي الذي يجعلنا لا نعير اهتماما للأفكار الحية الجريئة التي تحرك العالم وتطور المجتمعات وتنير الطرقات، خاصة أن ما قاله الشيخ الدكتور يوسف يعتبر مرجعا فكريا للأمة الإسلامية ومنارة حضارية لنهضتها من كبوة التخلف والتبعية والفتنة.في لقاء تلفزيوني مباشر وغير متوازن مع داعية أمريكي للسياسات الإسرائيلية كان يتكلم بلسان المحافظين الجدد دون اطلاع معمق وضروري على خلفيات صراع الشرق الأوسط، أعاد الشيخ للأذهان ما كان أعلنه في مؤتمر العلماء المسلمين المنعقد في الاتحاد الأوروبي، حين صدع برأي غاية في الأهمية، يعتبر ثورة حقيقية وسطية في الفكر الإسلامي المستنير، وهو تقديم مبدأ إقرار الحريات والديمقراطية في المجتمعات المسلمة على مبدأ تطبيق الشريعة. وهو رأي راعى فيه شيخنا مقاصد الشريعة والتحولات التاريخية الكبرى التي طرأت على العالم منذ الهزيع الأخير من القرن العشرين. وتذكرت الأحاديث المنعشة في بيته وفي مكتبه وفي الاجتماعات العديدة التي جمعتني به على مدى حول كامل لإنشاء أول موقع إسلامي كبير على شبكة الإنترنت، وما كان يدور بيننا من حوار حول أسبقية إقرار الحريات وصيانة حقوق الإنسان والعمل بالآليات الديمقراطية على مجرد رفع شعار الإسلام من أجل بلوغ مقاعد السلطة ثم الانقلاب على كل القيم وفي مقدمتها قيمة الحرية باسم الإسلام والإسلام من ذلك براء. وهذا الرأي لا يزال حاضرا بقوة في وجداني، لأننا عشنا وصول بعض الحركات ذات المرجع الإسلامي للسلطة لكنها في أغلب المواقف تخلت عن ثوابت الحضارة الإسلامية وانطلقت تغازل الحركات التقليدية لتحافظ على السلطة، كأنما السلطة هي غايتها وليس إصلاح المجتمعات بإقرار الحداثة الأصيلة بدل الحداثة الدخيلة. وأذكر أنني في يوم من الأيام سألت الشيخ قائلا له: "أعتقد، والله أعلم، أن القرآن إذا ما اعتبره البعض دستورا فهو ربما يجيز به بعض الطغاة طغيانهم، والأرشد للأمة أن تتخذ لنفسها دساتير من وضع الناس تحدد الحقوق والواجبات وتدستر علاقات الشعوب بدولها"، فقال لي الشيخ إن القرآن هو دستور الدساتير ولا ينفيها، بل في محكم آياته يدعو إلى إقرارها حفظا للمجتمع من الشطط والارتجال.وحين أربط بين رأي العلامة ذاك والحملة التي يتعرض لها ظلما، أستنتج أننا نوصد أبواب ثورة فكرية حقيقية مباركة في العقل الإسلامي المنفتح الواثق وأننا بصدد قطع شوط كبير على درب العودة لعصر الجمود وتمكين أعدائنا من طردنا من دورة التاريخ لنعود كأمساخ ذليلة للأمم القوية المهيمنة لا كأصحاب حضارة عريقة مجيدة متجددة أثبتت أنها قادرة على إنجاب العبقريات وإنتاج المعرفة وتحريك السواكن. وأنا لا أتردد في القول بأن الثورة الشاملة التي تنتظر المسلمين هي ثورة العقل المسلم على التبعية والجمود والغلو والجهل والاستبداد بكل أشكاله لا الهرب من الواقع المرير إلى الوهم الأمر منه، الثورات الوهمية التي نرفعها شعارات منفصلة عن الواقع وعن تحولات العالم وتطور الإنسان، فنعلنها تمردات عشواء على كل من يخالفنا الرأي أو الدين أو الجنس أو الانتماء ونقدم للمتربصين بنا، وهم كثر، ذرائع سهلة لمعاداتنا وتأليب العالم ضدنا وعزلنا عن المجتمع الدولي. وإني أدعو المثقفين المسلمين إلى تعميق التفكير والحوار حول الجدلية بين الهوية والحرية والشرعية، بالبحث والتفسير والتيسير، لأن حل هذه الجدلية الحضارية سيمد الأمة بقبس من النور الذي يهديها، وأيضا حول الحوار الإسلامي المسيحي والحوار الإسلامي اليهودي ومواصلة التنديد بالإرهاب إذا ما أصاب الأبرياء، مهما كانت بواعثه وبراهينه ونبقى مدركين أن هذه المقاربة الحكيمة للتاريخ الإسلامي المشحون بالتسامح وإعمال العقل لم يسعف أمته اليوم ولم ينقذها من الحملات الجهولة والعنصرية والمغرضة التي شنها عليه غلاة الأديان الأخرى وأزلام العداء للقيم الدينية والأخلاقية ممن لا يؤمنون بأي دين، بل يعتبرون الهوية عائقا أمام فسادهم وميوعتهم وضلالهم. وأنا أبقى مقتنعا اليوم بأن مصائب العرب الراهنة أول أسبابها أن الهوية والحرية والشرعية هي من الفرائض الغائبة كما كتبت حرفيا في نهاية كتابي الصادر عام 2003 في عز الاستبداد، لا بعد أفول نجمه وزوال عهده.