10 سبتمبر 2025
تسجيلاطلعت قبل سنوات طويلة على رواية "لقيطة" للروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله, كانت الراوية – من وجهة نظري – من أجمل الروايات التي تحدثت عن واقع اللقطاء في العالم العربي, ومعاناتهم من قسوة المجتمع والتمييز الظالم والذي يصل إلى درجة النبذ, ورغم أن بطلة العمل الممرضة "ليلى" وجدت من يمسك بيدها ويقدم لها الحب والرعاية لتتجاوز واقعها المر وتعيش الحياة كما تحب وتشتهي ودون أن يطاردها الماضي إلا أن النظرة القاسية تجاه اللقطاء وتحميلهم أخطاء آبائهم طوال الوقت دفعت بالبطلة في النهاية للاستسلام لواقعها والظروف المحيطة بها، فتلبست بالتشاؤم رغم التقائها أخيراً بوالدتها ورغم وجود شخص اختار أن يتزوجها رغم معارضة عائلته لارتباطه بفتاة مجهولة النسب, فالبطلة اختارت الموت في ريعان شبابها على أن تقطع ذراعها التي تعرضت لجرح من مشرط الجراحة مما تسبب في تسممها وتدهور صحتها، فهي لم تعد تتحمل فكرة رفض المجتمع لها, فالمجتمع نبذها رغم جمالها, فكيف سيقبلها بذراع واحدة؟ ما يميز هذه الراوية أنها ليست عن فرد بعينه بمقدار ما هي رواية عن الأنانية وعن المجتمع الظالم الذي ينكر على من قسا عليهم الدهر وغدر بهم آباؤهم حق الحياة وتحرض المجتمع على أن يقبلهم بين صفوفه دون أي تمييز ظالم، فيكفيهم ما تعرضوا له من الظلم, والعيش بلا أب ولا أم, مجهولي النسب يحملون أسماء وهمية, متنقلين بين المؤسسات الإيوائية أو في الشوارع, تطاردهم وصمة مجتمعية "سلبية" وعيون تنظر لهم بازدراء ودونية، فقط لأنهم مجهولو النسب. تذكرت هذه الراوية الجميلة وأنا أقرأ قصصا واقعية تعصر القلب ألما وحزنا، كقصة "مريم" و"أمل" اللتين أصبحتا حديث المجتمع السعودي، فكلتاهما عاشت مرارة الفقر والحرمان والظلم المجتمعي كما حدث مع بطلة الرواية "ليلى"، رغم أنهما نتاج علاقة شرعية، فمريم عاشت 27 عاما في كنف عجوز تشادية فقيرة تعمل بائعة ملابس وهي تجهل حقيقتها وأنها ابنة لرجل أعمال ثري استغل نفوذه على أحد العاملين لديه ليرمي عليه ابنته بعد ولادتها بأيام ليقوم بتربيتها بحجة أنه متزوج بالسر من امرأة هندية بعقد "عرفي" ولا يريد أن ينكشف أمره لدى زوجاته وأبنائه, فقام بتسفير الزوجة خارج البلاد والتخلي عن ابنته للأبد, وقصة أمل لا تختلف كثيراً عن مريم التي اكتشفت بعد 37 عاما بأن الرجل الذي قام على تربيتها وحرمها من التعليم وزوجها وهي بسن 13 عاما لأول خاطب ليس بوالدها الحقيقي, وأنها ابنة شرعية لرجل اختار أن يحولها للقيطة – خوفا من زوجته الأولى - ويرمي بها لرجل غريب ليرعاها مقابل منحه المال. رغم عدم مسؤولية اللقيط عن أخطاء وجبن من أتوا به إلى الحياة – سواء بطريقة شرعية أو غير شرعية- إلا أنه لا يزال يدفع ضريبة هذه الزلات قهرا وعناء وخاصة أنه يعيش في ظل مجتمعات تقدس الألقاب وتسود فيها ثقافة الرفض لهذه الفئة المظلومة, وكما يقول المثل "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" فتلك الأرواح البريئة دفعت وستدفع ثمن زلة الآباء والأمهات وأنانيتهم طوال حياتها وستحمل وصمة مجتمعية "سلبية" تطاردها حتى الممات. في رواية "لقيطة" اختارت البطلة أن تكون سلبية وتخضع لقوانين المجتمع الجائرة وترفع راية الاستسلام دون أن تحاول مواجهة الصعاب من أجل تغيير واقعها المليء بالقهر والشقاء لتموت في ريعان الشباب, بينما في قصة أمل ومريم كان موقف الصمود والمواجهة، فخرجت قصصهما للعلن من أجل انتزاع حقوقهما ورفع الظلم الواقع عليهما، وكلي أمل أن تنتهي حكاياتهما بخاتمة سعيدة.