19 ديسمبر 2025
تسجيلانبهر الرأي العام العالمي منذ شهرين فقط بما حققه الشعب الليبي المجيد من مكاسب تشبه المعجزات، وطبعاً لم تكن المهمة يسيرة، فيكفي أن نقول إنها جاءت بعد عشرة أعوام من فوضى حرب أهلية خطيرة مدمرة أعقبت 43 عاماً من حكم العقيد القذاقي، يمكن نعتها بانعدام الدولة واختزال الوطن في رجل واحد انقلب في الفاتح من سبتمبر 1969 على الملك الصالح المتصوف إدريس السنوسي رحمة الله عليه، الذي كان نقيب الطريقة الصوفية السنوسية أكثر مما كان ملكاً، وكان القذافي لم يبلغ الثلاثين مع ما يرافق الشباب من أحلام طوباوية مضافة إلى انعدام التجربة وتأثر ساذج بخطب الزعيم المصري جمال عبدالناصر رحمه الله حاله كحال أغلب الشباب العربي في جيلنا نحن، لكن العقيد الليبي الشاب لم يكتف بحلم المراهقة الذي اعترانا كلنا، بل بدأ يجمع حوله زملاءه الضباط حتى أنشأ نواة لما يشبه الضباط الأحرار في مصر، وكما نعلم فصباح الفاتح من سبتمبر 69 تحرك هؤلاء بالشعارات والدبابات للانقلاب على الملك الذي كان يتعالج في نفس مصر. أعتقد أن نبذة تاريخية ضرورية لفك طلاسم ما جرى وما يجري حتى اليوم في ليبيا، لأن حلقة أحداث اليوم ليست سوى نتائج طبيعية لسلسلة من التقلبات السياسية والعلاقات الدولية مهدت لها، وأنا بطبيعة معايشتي لأحداث ليبيا وارتباطها الحميم بوطني تونس واهتمامي الشخصي بالتاريخ ولقائي الشخصي بالعقيد عام 82 كتب لي الله تعالى أن أكون شاهداً حياً على حلقات مفيدة ومهمة من تاريخ ليبيا الحديث، وأتذكر يوم التقينا برئيس الحكومة الليبية الأسبق مصطفى بن حليم في منفانا الفرنسي ذات يوم من أواخر الثمانينيات أنا ورفيق الكفاح والمنافي محمد مزالي رئيس حكومة تونس وهما من نفس الجيل، وروى لنا ذلك السياسي الليبي المتميز بعض النوادر منها ما ظللنا نتندر به سنوات وهو ما حكاه لنا عن يوم كان هو مع الملك في بيته (لا نقول قصره لأنه حوش ليبي متواضع ومؤثث بتقشف)، قال بن حليم بينما كنت مع الملك إذ سمعنا هتافات عدد قليل من الطلاب يحتجون على بطء جلاء قاعدة أمريكية عن ليبيا كما وعد الملك، وخرجت أنا إلى الشرفة (الدريشة) أستطلع الأمر، وسمعت بعض ما يهتف به المتظاهرون وطبعاً قام الحرس الملكي بإبعادهم دون إيقاف أحد منهم، لأن الملك قال أمامي لرئيس الحرس عبد الله الترهوني: "دعهم يعودون لجامعتهم إن الوالد لا يعاقب أولاده المشاغبين"، لكن الملك الصالح طلب مني أن أعيد على مسامعه شعارات الطلاب فاعتذرت للملك بأدب قائلاً له: "أستحي جلالة الملك فاعفني من إعادة ما هتفوا به"، لكن إدريس أصر واستحلفني بالله فقلت له: "يقولون أكرمك الله إبليس ولا إدريس!"، فإذا بالملك يبتسم ثم يضحك ويرد عليّ رافعا يديه بالدعاء: "يا رب أعطهم إبليس عوض إدريس..!" وضحكت معه وأنا مستح من هذا الموقف. وحين قص علينا مصطفى بن حليم هذه الدرة بعد عقود كان رد مزالي: "عجباً فقد استجاب الله لدعاء الملك وأعطاهم إبليس.."، نعود إلى أحداث محطة 22 أبريل 2021 حين منعت القوات العسكرية الموالية للمتمرد خليفة حفتر أعضاء الحكومة الوطنية المنتخبة من دخول (سرت) بعد أن اعتقدنا أن حفتر وفائز السراج استجابا للوفاق الوطني الجديد وأعلنا الولاء للحكومة التي باركها مجلس الأمن وكل القوى العظمى ودول الجوار من أجل طي صفحة الماضي الأسود وعودة الوحدة المنشودة بين طرابلس وبنغازي، فإذا بالليبيين والعالم من ورائهم يباغتون برفع السلاح ضد من انتخبوا لحمل الأمانة بأيدي نفس حفتر الذي ثبت أنه يمهد الحكم لابنه صدام حفتر ضارباً جهود سنة صعبة من المؤتمرات السلمية واللقاءات الأخوية في عواصم عديدة من العالم وانبلاج عهد جديد من سلام كان مفقوداً لعقود بل كانت البؤرة الليبية تهدد أمن البحر الأبيض المتوسط حين تحولت ليبيا إلى ساحة تقاتل بين فرقاء عالميين وجهويين من خلال ميليشياتهم المرتزقة المتمعشة من خراب ليبيا. أخر التحديات أمام الشعب الليبي أن يعزل المتمردين ويصادر أسلحتهم ويطرد مرتزقتهم إما بالمفاوضات التي يرعاها مجلس الأمن عراب السلام الأهلي في ليبيا أو إذا لا قدر الله استعصى الحل السلمي فإن كل قوى الأمم المتحدة بقرارات مجلس الأمن والناتو والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي مستعدة أن تتدخل لتنفيذ قرارات وقعت عليها هذه الأطراف الدولية جميعاً حفاظا على الأمن الإقليمي والدولي ورحمة بالشعب الليبي الذي لم يعد يتحمل. [email protected]